للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لك مثلَ العدوِّ، وقد كنتَ تُكرِمُنى؟ ليس يغيبُ عنك شيءٌ، تُحصِى قَطْرَ الأمطارِ، وورَقَ الأشجارِ، وذرَّ الترابِ، أصبَح جِلدِى كالثوبِ العَفِنِ، بأَيِّهِ أمسَكتُ سقَط في يدِى، فهَبْ لى قُربانًا من عندِك، وفرَجًا من بلائِي، بالقدرَةِ التي تبعَثُ مَوْتَى العبادِ، وتنشُرُ بها مَيْتَ البلادِ، ولا تُهلِكْنى بغيرِ أن تُعلِمَنى ما ذَنْبِي، ولا تُفسِدْ عمَلَ يديْكَ، وإن كنتَ غنيًّا عنِّي، ليس ينْبَغِى في حُكْمِك ظُلْمٌ، ولا في نِقْمَتِكَ عَجَلٌ، وإنما يحتاجُ إلى الظُّلْمِ الضعيفُ، وإنما يعجَلُ مَن يخافُ الفَوْتَ، ولا تُذَكِّرْني خَطَئِى وذُنوبي، اذكرْ كيفَ خَلَقتَنى من طينٍ، فجُعِلتُ مضغةً، ثم خلَقتَ المضغةَ عِظامًا، وكسَوتَ العظام لحمًا وجِلدًا، وجعَلتَ العصَبَ والعروقَ لذلك قوامًا وشدَّةً، ورَبَّيْتَنى صغيرًا، ورَزَقتني كبيرًا، ثم حفِظتُ عهدَك وفعلتُ أمرَك، فإن أخطأتُ فبيِّنْ لى، ولا تُهلِكْنى عَمًّا، وأعلِمْنى ذَنْبِي، فإن لم أُرْضِكَ فَأَنَا أَهْلٌ أن تعذِّبَنِي، وإن كنتُ من بين خلْقِك تُحصِى عليَّ عمَلِى، وأستَغْفِرُك فلا تغفِرُ لى، إن أحسَنتُ لم أرْفَعْ رأسِي، وإن أسأْتُ لم تُبلعْنِى رِيقى، ولم تُقِلْنى عَثرتي، وقد ترَى ضَعْفى تحتَك، وتضرُّعِى لك، فلِمَ خَلَقْتنى؟ أو لِمَ أَخرَجْتَنى من بطنِ أُمِّي؟ لو كنتُ كمن لم يكُنْ لكان خيرًا لي، فليسَتِ الدنيا عندِى بخطَرٍ لغضَبِك، وليس جسَدِى يقومُ بعذابِك، فارْحَمْنى وأَذِقْنى طعْمَ العافيةِ من قبلِ أن أصيرَ إلى ضِيقِ القبرِ وظُلمةِ الأرضِ وغمِّ الموتِ.

قال صافِرُ (١): قد تكلَّمتَ يا أيوبُ، وما يُطيقُ أحدٌ أن يحبِسَ فمَك، تزعُمُ أنك برئٌ، فهل ينفَعُك إن كنتَ بريئًا، وعليك مَن يُحصِى عمَلَك؟ وتَزْعُمُ أنك تعلَمُ أن الله يغفِرُ لك ذنوبَك، هل تعلَمُ سُمْكَ السماءِ كم بُعدُه؟ أم هل تعلَمُ عُمْقَ


(١) في ص، ت ١، ت ٢: "طافر"، وفى ف: "ظافر".