للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الهواءِ كم بعدُه؟ أم هل تعلَمُ أيُّ الأرضِ أعْرَضُها؟ أم هل (١) عندَك لها من مقدارٍ تُقدِّرُها به؟ أم هل (٢) تعلَمُ أيُّ البحرِ أعمَقُه؟ أم هل تعلَمُ بأيِّ شيءٍ تحبِسُه؟ فإن كنتَ تعلَمُ هذا العلمَ، وإن كنتَ لا تعلَمُه، فإن الله خلَقه وهو يُحصِيه، لو تركْتَ كثرةَ الحديثِ، وطلَبتَ إلى رَبِّكَ، رَجَوْتُ أن يرحمَك، فبذلك تستَخرجُ رحمتَه، وإن كنتَ تقيمُ على خطيئَتِك وترفَعُ إلى اللهِ يدَيْك عندَ الحاجةِ، وأنت مُصِرٌّ على ذنبِك إصرارَ الماءِ الجارِى في صَبَبٍ لا يُستطاعُ إحباسُه، فعندَ طلَبِ الحاجاتِ إلى الرحمنِ تسوَدُّ وجوهُ الأشرارِ، وتُظْلِمُ عيونُهم، وعندَ ذلك يُسَرُّ بنجاحِ حوائجِهم الذين ترَكوا الشهواتِ تزيُّنًا بذلك عند ربِّهم، وتقدَّموا في التضرُّعِ ليستَحِقُّوا بذلك الرحمةَ حين يحتاجونَ إليها، وهم الذين كابَدوا الليلَ، واعتزَلوا الفُرُشَ، وانتظَروا الأسحارَ.

قال أيوبُ: أنتم قومٌ قد أعجَبتكُم أنفسُكم، وقد كنتُ فيما خَلا والرجالُ يُوَقِّرونَنى، وأنا معروفٌ حَقِّى، مُنتَصِفٌ من خَصْمِي، قاهرٌ لمن هو اليومَ يَقْهَرُني، يسألُني عن علْمِ غيبِ اللهِ لا أعلَمُه ويسألُنى، فَلَعَمْرِي، ما نُصْحُ الأَخِ لأخِيه حينَ نزَل به البلاءُ كذلك، ولكنه يَبكِي معه، وإن كنتَ جادًّا فإن عقلِي يقصُرُ عن الذي تسألُنى عنه، فسَلْ طيرَ السماءِ هل تُخبِرُك؟ وسَلْ وُحوشَ الأرضِ هل تَرْجِعُ إليك؟ وسَلْ سباعَ البَرِّيَّةِ هل تُجيبُك؟ وسَلْ حيتانَ البحر هل تَصِفُ لك كُلَّ ما عدَدتَ؟ تَعَلَّمْ أن الله صنَع هذا بحكمتِه، وهيَّأَه بلُطْفِه.

أما يعلَمُ ابن آدمَ من الكلامِ ما سمِع بأُذُنيه، وما طعِم بفِيه، وما شَمَّ بأنفِه، وأن العلمَ الذي سألتَ عنه لا يعلَمُه إلا اللهُ الذي خلَقَه، له الحكمةُ والجبروتُ، وله


(١) سقط من: م.
(٢) بعده في ت ٢: "عندك".