النقيِّ. ثم انصرَف عنه، فجعَل يُصيبُ ماله مالًا مالًا، حتى مرَّ على آخِرِه، كلَّما انتهى مرَّ هلاكُ مالٍ من مالِه حمِد الله وأحسَن عليه الثناءَ، ورَضِى بالقضاءِ، ووطَّن نفسَه للصبرِ على البلاءِ، حتى إذا لم يبقَ له مالٌ أتَى أهلَه وولَده وهم في قصرٍ لهم، معهم حَظِيَّاتُهم وخدّامُهم، فتمثَّل ريحًا عاصفًا، فاحتَمل القصرَ من نواحِيه، فألقاه على أهلِه ووَلَدِه، فشدَخهم تحتَه، ثم أتاه في صورةِ قَهْرمانِه عليهم، قد شُدِحْ وَجْهُه، فقال: يا أيوبُ، قد أَتَتْ ريحٌ عاصفٌ، فاحتَملَت القصرَ من نواحِيه، ثم ألقَتْه على أهلِك وولدِك فشدَخَهم غيرِى، فجئْتُك أخبِرُك ذلك. فلم يجزَعْ على شيءٍ أصابَه جزَعه على أهلِه وولَدِه، وأخَذ ترابًا فوضَعه على رأسِه، ثم قال: ليتَ أُمِّي لم تلِدْنى، ولم أكُ شيئًا. وسُرَّ بها عدوُّ اللهِ منه، فأصعَد إلى السماءِ جَذِلًا، وراجَع أيوبُ التوبةَ مما قال، فحمدِ الله، فسبَقت توبتُه عدوَّ اللهِ إلى اللهِ، فلما جاءَ وذكَر ما صنَع، قيل له: قد سبَقتْك توبتُه إلى اللهِ ومراجَعتُه. قال: أَيْ رَبِّ، فسلِّطْنى على جسَدِه. قال: قد سلَّطتُك على جسَدِه إلا على لسانِه وقلبِه ونفَسِه وسَمعِه وبَصَرِه. فأقبلَ إليه عدوُّ اللهِ وهو ساجِدٌ، فنفَخ في جسَدِه نفخةً أشعَل ما بينَ قرنِه إلى قدَمِه، كحريقِ النارِ، ثم خرَج في جسدِه ثآليلُ كألياتِ الغنَمِ، فحَكَّ بأظفارِه حتى ذهَبت، ثم بالفَخَّارِ والحجارةِ حتى تساقَطَ لحمُه، فلم يبقَ منه إلا العروقُ والعصَبُ والعظامُ، عيناه تجولانِ في رأسِه للنظرِ، وقلبُه للعقلِ، ولم يخلُصْ إلى شيءٍ من حشوِ البطْنِ؛ لأنه لا بقاءَ للنفسِ إلا بها، فهو يأكُلُ ويشرَبُ على التواءٍ من حُشوتِه، فمكَث كذلك ما شاءَ اللهُ أن يمكُثَ.
فحدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ، عن الحسنِ (١) بن دينارٍ، عن الحسنِ، أنه كان يقولُ: مكَث أيوبُ في ذلك البلاءِ سبعَ سنينَ وستةَ أشهرٍ ملقًى على رمادِ مكنسةٍ في جانبِ القريةِ. قال وهبُ بنُ منبهٍ: ولم يبقَ من أهلِه إلا امرأةٌ واحدةٌ تقومُ عليه وتكسِبُ له، ولا يقدِرُ عدوُّ اللهِ منه على قليلٍ ولا كثيرٍ مما يريدُ.