للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولا كافرٌ إلا سجَد، إلا الوليدُ بنُ المغيرةِ، فإنه كان شيخًا كبيرًا فلم يستطع، فأخذ بيده حَفنةٌ مِن البطحاءِ، فسجَد عليها، ثم تفرَّق الناسُ مِن المسجد، وخرَجت قريشٌ وقد سرَّهم ما سمِعوا مِن ذكرِ آلهتِهم، يقولون: قد ذكَر محمدٌ آلهتَنا بأحسنِ الذِّكر، وزعم فيما يتلو أنها الغرانيقُ العُلى، وأن شفاعتهنَّ تُرتَضى. وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله ، وقيل: أسلمت قريشٌ، فنَهضت منهم رجالٌ، وتخلف آخرون، وأتى جبريل النبي ، فقال: يا محمدُ، ماذا صنَعْتَ؟ لقد تَلَوْتَ على الناس ما لم آتِك به عن اللهِ، وقلت ما لم يُقَل لك. فحَزِن رسول الله عند ذلك، وخاف من الله خوفًا كثيرًا (١)، فأنزل الله تعالى عليه -وكان به رحيمًا- يُعزِّيه ويُخفِّضُ عليه الأمر، ويُخبرُه أنه لم يكن قبله رسولٌ ولا نبىٌّ تمنَّى كما تمنَّى، ولا أحبَّ كما أحبَّ، إلا والشيطان قد ألقى في أُمنيَّتِه كما ألقى على لسانه ، فنسخ الله ما ألقَى الشيطانُ، وأحكم آياته. أى: فأنتَ كبعض الأنبياءِ والرُّسُلِ. فأنزل الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ الآية. فأذهب اللهُ عن نبيِّه الحزن، وأمَّنَه مِن الذي كان يخافُ، ونسخ ما أَلقَى الشيطانُ على لسانه من ذكرِ آلهتهم أنها الغرانيقُ العُلى، وأن شفاعتهن تُرتضى. يقولُ اللهُ حينَ ذكَر اللاتَ والعُزَّى ومناةَ الثالثة الأُخرى، إلى قوله: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم: ٢٦]. أى فكيف تنفعُ شفاعةُ آلهتِكم عنده؟! فلما جاءه من اللهِ ما نسخ ما كان الشيطانُ ألقَى على لسان نبيِّه، قالت قريشٌ: ندِم محمدٌ على ما كان من منزلة آلهتكم عندَ اللهِ، فغيَّر ذلك وجاء بغيرِه. وكان ذانِك (٢) الحَرفان اللذان ألقَى الشيطانُ على لسانِ رسولِه قد وقَعا فى فَمِ كلُّ مُشركٍ، فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا


(١) فى م: "كبيرا"، وفي ت ٢: "شديدا".
(٢) في م: "ذلك".