للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فـ "مُكلَّفٌ" من نعتِ "عاشِقٍ"، وقد رفَعه بحرفِ الصفةِ، وهو الباءُ، في أشْباهٍ لما ذَكَرْنا بكثيرٍ مِن الشواهد. فكذلك قولهُ: ﴿وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾. رُفِعَتِ ﴿الْخِيَرَةُ﴾ بالصَّفَةِ، وهى ﴿لَهُمُ﴾، وإن كانت خبرًا لـ ﴿مَا﴾، لمَّا جاءتْ بعد الصفة، ووَقَعَتِ الصفةُ موقعَ الخبرِ، فصار كقولِ القائلِ: كان عمرٌو أبوه قائم. لا شكَّ أن "قائمًا" لو كان مكانَ الأبِ، وكان الأبُ هو المتأخِّرَ بعدَه؛ كان منصوبًا. فكذلك وجهُ رَفع ﴿الْخِيَرَةُ﴾، وهو خبرٌ لـ ﴿مَا﴾.

فإن قال قائلٌ: فهل يجوزُ أن تكونَ ﴿مَا﴾ في هذا الموضع جَحْدًا، ويكونَ معنى الكلام: ورَبُّك يخلُقُ ما يشاءُ أن يَخلُقَه، ويختارُ ما يشاءُ أن يختارَه. فيكونَ قولُه: ﴿وَيَخْتَارُ﴾. نهايةَ الخبرِ عن الخلْقِ والاخْتيارِ، ثم يكونَ الكلامُ بعدَ ذلك مبتدأً، بمعنى: لم يكنْ لهم الخيرةُ. أى: لم يكنْ للخلقِ الخيرةُ، وإنما الخيرةُ للهِ وحدَه؟

قيل: هذا قولٌ لا يُخِيلُ (١) فسادُه على ذى حِجًا، من وجوهٍ، لو لم يكنْ بخلافِه لأهلِ التأويلِ قولٌ، فكيف والتأويلُ عمَّن ذكرْنا بخلافِه (٢).

فأَمَّا أحدُ وجوهِ فسادِه، فهو أن قولَه: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾. لو كان كما ظَنَّه مَن ظَنَّه؛ مِن أن ﴿مَا﴾ بمعنى الجَحْدِ، على نحوِ التأويلِ الذي ذكرتُ، كان إنما جحَد تعالى ذكره أن تكونَ كان لهم الخيرةُ فيما مضَى قبلَ نزولِ هذه الآيةِ، فأَمَّا فيما يَسْتَقْبِلُونَه فلهم الخيرةُ؛ لأن قولَ القائلِ: ما كان لك هذا. لا شكَّ إنما هو خبرٌ عن أنه لم يكنْ له ذلك فيما مضَى، وقد يجوزُ أن يكونَ له في ما يُسْتَقْبَلُ، وذلك


(١) في م: "يخفى"، وفى ت ٢: "يحل". وأخال الشيءُ: اشْتَبه. يقال: هذا الأمر لا يُخِيل على أحدٍ. أى لا يُشكل. اللسان (خ ى ل).
(٢) قال ابن كثير في تفسيره ٦/ ٢٦١: وقوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ نفى على أصح القولين، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾. وينظر تفسير القرطبي ١٣/ ٣٠٥، ٣٠٦.