للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَجْعَلَها عُمْرةً، ويحجَّ عامًا قابَلا ويُهْدِيَ (١).

وعِلَّةُ مَن قال هذه المقالةَ - أَعْنِي مَن قال قولَ مالكٍ - أَنَّ هذه الآيةَ نزَلتْ في حَصْرِ المشركينَ رسولَ اللَّهِ وأصحابَه عن البيتِ، فأمَر اللَّهُ جل ثناؤُه نبيَّه ومَن معه بنَحْرِ هداياهم والإحلالِ. قالوا: فإنما أنزَل اللَّهُ هذه الآيةَ في حصرِ العدوِّ، فلا يَجُوزُ أن يُصْرَفَ حُكْمُها إلى غيرِ المعنى الذي نَزَلت فيه. قالوا: وأما المريضُ فإنه إذا لم يُطِقْ لمرضِه السيرَ حتى فاتَتْه عرفةُ، فإنما هو رجلٌ فاتَه الحَجُّ، عليه الخُروجُ مِن إحرامِه بما يَخْرُجُ به مَن فاته الحَجُّ، وليس مِن مَعْنى المحصَرِ الذي نزَلت هذه الآيةُ [فيه في شيءٍ] (٢).

وأولى التأويلين بالصوابِ في قولِه: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ تأويلُ مَن تأوَّلَه بمعنى: فإن أحصَرَكم خوفُ عدوٍّ أو مرضٌ أو علةٌ عن الوُصولِ إلى البيتِ، أي: صيَّرَكم خوفُكم أو مرضُكم تَحْصُرون أنَفُسَكم فتَحْبِسُونها عن النُّفوذِ لِما أوْجَبْتُموه على أنْفُسِكم مِن عملِ الحجِّ والعمرةِ؛ فلذلك قيل: ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾. لمّا أسقَط ذكرَ الخوفِ والمرضِ، يقالُ منه: أحصَرني خَوْفي مِن فلانٍ عن لقائِك، ومَرَضي عن فُلانٍ. يرادُ به: جَعَلَني أَحْبِسُ نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابسُ الرجلَ والإنسانَ، قيل: حصَرني فلانٌ عن لقائِك. بمعنى: حبَسني عنه. فلو كان معنى الآيةِ ما ظنَّه المتأوّلُ مِن قولِه: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾: فإن حبَسكم حابسٌ مِن العدوِّ عن الوُصولِ إلى البيتِ. لوجَب أن يكونَ: فإن حصِرتم.

ومما يُبَينُ صحةَ ما قلناه مِن أن تأويلَ الآيةِ مرادٌ بها إحصارُ غيرِ العدوِّ، وأنه إنما يُرادُ بها الخوفُ مِن العدوِّ قولُه: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾. والأمنُ إنما يكونُ بزَوالِ الخوفِ: وإذ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الإحصارَ الذي عنَى اللَّهُ في هذه الآيةِ هو الخوفُ الذي يكونُ بزوالِه الأمنُ.


(١) ينظر الموطأ ١/ ٤٦١ برواية أبي مصعب.
(٢) في م، ت ١، ت ٢، ت ٣: "في شأنه".