للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العبادَ بحملِ والديه عليه عندَ اخْتِلافِهما فيه، وإرادةِ أحدِهما الضِّرارَ به، وذلك أن الأمرَ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه إنما يَكونُ فيما يَكونُ للعِبادِ السبيلُ إلى طاعتِه بفعلِه (١) والمعصيةِ بترْكِه، فأما ما لم يَكُنْ لهم إلى فعلِه، ولا إلى تركِه سبيلٌ، فذلك مما لا يَجوزُ الأمرُ به ولا النهيُ عنه ولا التعبُّدُ به.

فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحملُ مما لا سبيلَ للنساءِ إلى تقصيرِ مدتِه، ولا إلى إطالتِها فيَضَعْنَه متى شِئْنَ، ويَتْرُكْن وَضْعَه إذا شِئْنَ، كان معلومًا أن قولَه: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ إنما هو خبرٌ مِن اللَّهِ تعالى ذكرُه عن أن مِن خَلْقِه مَن حمَلَتْه أمُّه وولَدَتْه وفصَلَتْه في ثلاثين شهرًا، لا أمرٌ بألا يُتجاوَزَ في مدةِ حملِه وفِصالِه ثلاثون شهرًا؛ لما وصَفْنا، وكذلك قال ربُّنا تعالى ذكرُه في كتابِه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا (٢) حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾.

فإن ظنَّ ذو غَباءٍ أن اللَّهَ تعالى ذكرُه إذ وصَف أن مِن خلْقِه مَن حمَلَتْه أمُّه ووضَعَتْه وفصَلَتْه في ثلاثين شهرًا، فوجَب أن يَكونَ جميعُ خلقِه ذلك صفتُهم، وأن ذلك دَلالةٌ على أن حملَ كلِّ عبادِه وفِصالَه ثلاثون شهرًا، فقد يَجِبُ أن يَكونَ كلُّ عبادِه صفتُهم أن يَقُولوا إذا بلَغوا أشُدَّهم، وبلَغوا أربعين سنةً: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾. على ما وصَف اللَّهُ به الذي وُصِف في هذه الآيةِ. وفي وُجودِنا مَن يَسْتَحْكِمُ كفرُه باللَّهِ، وكُفْرانُه نِعَمَ ربِّه عليه، وجُرْأتُه على والدَيْه بالقتلِ والشَّتْمِ وضُروبِ المَكارِهِ عندَ


(١) في ت ٢: "بفضله".
(٢) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣: "حسنا". وهما قراءتان سيذكرهما المصنف عند تفسير هذه الآية من سورة الأحقاف.