وليست بمنسوخةٍ، وذلك أن النسخَ لا يكونُ في حكمٍ إلا يَنْفِيه بآخرَ له نافٍ من كلِّ وجوهِه، وليس في قولِه جلَّ ثناؤُه: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ نفيُ الحكمِ الذي أعلَم عبادَه بقولِه: ﴿أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾؛ أن المحاسبةَ ليست بموجبةٍ عقوبةَ اللَّهِ، ولا مُؤاخذةً بما حُوسِب عليه العبدُ مِن ذُنوبِه، وقد أخبَر اللَّهُ جلَّ ثناؤُه عن المجرمين أنهم حينَ تُعْرَضُ عليهم كُتبُ أعمالِهم يومَ القيامةِ يَقُولون: ﴿يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩]. فأخبرَ أن كتبَهم مُحصِيةٌ عليهم صغائرَ أعمالِهم وكبائرَها، فلم تَكُن الكتبُ - وإن أحصَت صغائرَ الذنوبِ وكبائرَها - بموجِبٍ إحصاؤُها على أهلِ الإيمانِ باللَّهِ ورسولِه وأهلِ الطاعةِ له، أن يَكُونوا بكلِّ ما أحصَته الكتبُ مِن الذنوبِ معاقَبين؛ لأنه ﷿ وعدهم العفوَ عن الصغائرِ باجتنابِهم الكبائرَ، فقال في تنزيلِه: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: ٣١]. فكذلك (١) محاسبةُ اللَّهِ عبادَه المؤمنينَ بما هو محاسبُهم به من الأمورِ التي أخْفَتها أنفسُهم، غيرُ موجِبةٍ لهم منه عقوبةً، بل محاسبتُه إياهم، إن شاء اللَّهُ، عليها ليُعرِّفَهم بفَضْلِه عليهم بعفوِه لهم عنها، كما بلَغنا عن رسولِ الله ﷺ في الخبرِ الذي حدَّثني به أحمدُ بنُ المِقدامِ، قال: ثنا المُعتمرُ بنُ سليمانَ، قال: سمِعت أبي، عن قتادةَ، عن صفوانَ بن مُحرِزٍ، عن ابن عمرَ، عن نبيِّ اللَّهِ ﷺ، قال: "يُدْنِي اللَّهُ ﷿ عبدَه المؤمنَ يومَ القيامةِ حتى يَضَعَ عليه كنَفَه، فيُقَرِّرُه بسيئاتِه، يَقولُ: هل تَعْرِفُ؟ فيَقُولُ: نعم. فيَقُولُ: ستَرتُها في الدنيا وأغْفِرُها اليومَ. ثم يُظْهِرُ له حسناتِه، فَيَقُولُ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] - أو كما قال - وأما الكافرُ فإنه يُنادَى به على
(١) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣، س: "فذلك"، وفى م: "فدل أن".