للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قالوا: وإذ كان لا دلالةَ في ذلك، لو أظْهَر جميعَها (١)، إلا على معناها الذي هو معنًى واحدٌ، وكان اللَّهُ جلَّ ثناؤُه قد أراد الدلالةَ بكلِّ حرفٍ منها على مَعانٍ كثيرةٍ لشيءٍ واحدٍ - لَمْ يَجُزْ إلا أن يُفْرَدَ الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني، ليَعْلَمَ المخاطَبون به أنه جلَّ ثناؤه لم يَقْصِدْ قصدَ معنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيءٍ واحدٍ بما خاطَبَهم به، وأنه إنما قصَد الدلالةَ به (٢) على أشياءَ كثيرةٍ.

قالوا: فالألفُ مِن ﴿الم﴾ مُقْتَضِيةٌ معانيَ كثيرةً؛ منها تمامُ اسمِ الربِّ الذي هو اللَّهُ، وتمامُ اسمِ نعماءِ اللَّهِ التي هي آلاءُ اللَّهِ، والدلالةُ على أجَلِ قومٍ أنه سَنَةٌ، إذ كانت الألفُ في حسابِ الجُمَّلِ واحدًا. واللامُ مُقْتَضِيةٌ تمامَ اسمِ اللَّهِ الذي هو لَطيفٌ، وتمامَ اسمِ فَضْلِه الذي هو لُطْفٌ، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه ثلاثون سنةً. والميمُ مُقْتَضِيةٌ تمامَ اسمِ اللَّهِ الذي هو مَجيدٌ، وتمامَ اسمِ عظمتِه التي هي مَجْدٌ، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه أربعون سنةً.

فكان معنى الكلامِ في تأويلِ قائلِ القولِ الأولِ، أن اللَّهَ جلَّ ثناؤُه افْتَتَح كلامَه بوَصْفِ نفسِه بأنه العالِمُ الذي لا يَخْفَى عليه شيءٌ، وجعَل ذلك لعبادِه مَنْهَجًا يَسْلُكونه في مُفْتَتحِ خُطَبِهم ورسائلِهم ومُهِمِّ أمورِهم، وابتلاءً منه لهم به (٢) ليَسْتَوْجِبوا به عظيمَ الثوابِ في دارِ الجزاءِ، كما افْتَتَح بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: ١]. وما أشْبَهَ ذلك مِن السورِ التي جعَل مَفاتحَها الحمدَ لنفسِه، وكما جعَل مَفاتحَ بعضِها تعظيمَ نفسِه وإجلالَها بالتسبيحِ، كما قال جلَّ ثناؤُه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١]. وما أشبهَ ذلك مِن سائرِ سُورِ القرآنِ التي جعَل مَفاتحَ بعضِها


(١) في ص: "جميعا".
(٢) سقط من: م، ت ٢.