للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في هذه الآيةِ.

وإنما قلنا: ذلك أَوْلاهما بالصوابِ؛ لأن القائلين: إن حكَم هذه الآيةِ مَنْسوخٌ. زعَموا أنه نُسِخ بقوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾. وقد دلَّلْنا في كتابِنا "كتابِ البيانِ عن أصولِ الأحكامِ" أن النسخُ لا يكونُ نَسْخًا إلا ما كان نفْيًا لحكمٍ غيرِه بكلِّ مَعانِيه، حتى لا يَجوزَ اجْتماعُ الحكمِ بالأمرَيْن جميعًا على صحتِه بوجهٍ مِن الوجوهِ، بما أغْنَى عن إعادتِه في هذا الموضعِ.

وإذ كان ذلك كذلك، وكان غيرَ مُستحيلٍ في الكلامِ أن يُقالَ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾. ومعناه: وأنِ احْكُم بينَهم بما أنْزَل اللهُ إذا حكَمْتَ بينَهم باختيارِك الحكمَ بينَهم، إذا اخْتَرْتَ ذلك، ولم تَخْتَرِ الإعراضَ عنهم. إذ كان قد تقَدَّم إعْلامُ المَقولِ له ذلك مِن قائلِه: إن له الخيارَ في الحكمِ وتَرْكِ الحكمِ - كان معلومًا بذلك ألّا دلالةَ في قوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾. أنه ناسخٌ قولَه: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾؛ لما وصَفْنا مِن احتمالِ ذلك ما بيَّنَّا، بل هو دليلٌ على مثلِ الذي دلَّ عليه قولُه: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾. وإذا لم يَكُنْ في ظاهر التنزيلِ دليل على نسخِ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفيِ أحدِ الأمرين حكَم الآخرِ، ولم يَكُنْ عن رسولِ اللَّهِ خبرٌ يَصِحُّ بأن أحدَهما ناسخٌ صاحبَه، ولا مِن المسلمين على ذلك إجماعٌ - صحَّ ما قلنا مِن أن كِلَا الأمْرَيْن يُؤَيِّدُ أحدُهما صاحبه، ويُوافِقُ حكمه حكمَه، ولا نسخَ في أحدِهما للآخَرِ.

وأما قوله: ﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾. فإن معناه: وإن تُعْرضُ يا محمدُ عن المحْتَكِمين إليك مِن أهلِ الكتابِ، فتَدَعَ النظر بينَهم فيما