وإنما دعَا هؤلاء إلى هذا القولِ لأنهم قالوا: موتُ ذِي الروحِ مفارقةُ الروحِ إياه. فزعَموا أن كلَّ شيْءٍ من ابنِ آدمَ حيٌّ ما لم يفارقْ جسدَه الحيَّ ذا الروحِ، فكلُّ ما فارقَ جسدَه الحيَّ ذا الروحِ، فارقَتْه [الروحُ و](١) الحياةُ فصار ميتًا، كالعضوِ من أعضائِه؛ مثلُ اليدِ من يدَيْه أو الرِّجْلِ من رجلَيْه، لو قُطِعت فأُبينَتْ، والمقطوعُ ذلك منه حيٌّ، كان الذي بأن من جسدِه مَيِّتًا لا روحَ فيه بفراقِه سائرَ جسدِه الذي فيه الروحُ. قالوا: فكذلك نطفتُه حيةٌ بحياتِه، ما لم تفارقْ جسدَه ذا الروحِ، فإذا فارقَتْه مُبايِنةً له صارت مَيتةً، نطيرَ ما وصفْنَا من حكمِ اليدِ والرجلِ وسائرِ أعضائِه، وهذا قولٌ ووجهٌ من التأويلِ لو كان من أقوالِ أهلِ القُدْوةِ الذين يُرتضَى للقرآنِ تأويلُهم.
وأوْلَى مما ذكَرْنا من الأقوالِ التي بيّنَّا بتأويلِ قولِ اللهِ جلَّ ثناؤُه: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ الآية. القولُ الذي ذكَرْناه عن ابنِ مسعودٍ، وعن ابنِ عباسٍ، من أنَّ معنى قولِه: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾. أمواتَ الذِّكْرِ، خُمولًا في أصلابِ آبائِكم، نُطَفًا لا تُعرَفون ولا تُذكَرون، فأحياكُم بإنشائكُم بشرًا سويًّا، حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتُم، ثم يميتُكم بقبضِ أرواحِكم وإعادتِكم رُفاتًا، لا تُعْرَفون ولا تُذْكرون في البرزخِ إلى يومِ تُبعثون، ثم يُحييكم بعدَ ذلك بنفخِ الأرواحِ فيكم لبعثِ الساعةِ وصَيحةِ القيامةِ، ثم إلى اللهِ تُرجَعون بعدَ ذلك، كما قال: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ لأن اللهَ جلَّ ثناؤُه يُحيِيهم في قبورِهم قبلَ حشرِهم، ثم يحشُرُهم لموقفِ الحسابِ، كما قال جلَّ ذكرُه ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: ٤٣]. وقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ [يس: ٥١].
والعِلةُ التي من أجلِها اختَرنا هذا التأويلَ، ما قدَّمنا ذِكْرَه للقائلين به،