للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن تُدْرِكَ الأصواتَ، ومن شأنِ المتنسِّمِ (١) أن يُدْرِكَ الأعْرافَ (٢). قالوا: فمِن الوجهِ الذي فسَد أن يَكونَ جائزًا أن يُقْضَى للسمعِ بغيرِ إدراكِ الأصواتِ، وللمتنسِّمِ (٣) إلا بإدراكِ الأعرافِ، فسَد أن يَكونَ جائزًا [القضاءُ للبصرِ] (٤) إلا بإدراكِ الألوانِ. قالوا: ولما كان غيرُ جائزٍ أن يكونَ اللهُ تعالى ذكرُه موصوفًا بأنه ذو لونٍ، صحَّ أنه غيرُ جائزٍ أن يكونَ موصوفًا بأنه مرئيٌّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تُدْرِكُه أبصارُ الخَلائقِ في الدنيا، وأما في الآخرةِ فإنها تُدْرِكُه. وقال أهلُ هذه المقالةِ: الإدراكُ في هذا الموضعِ الرؤيةُ.

واعتَلَّ أهلُ هذه المقالةِ لقولِهم هذا بأن قالوا: الإدراكُ وإن كان قد يَكونُ في بعضِ الأحوالِ بغيرِ معنى الرؤيةِ، فإن الرؤيةَ مِن أحدِ معانيه، وذلك أنه غيرُ جائزٍ أن يَلْحَق بصرُه شيئًا فيراه، وهو لِمَا أبْصَره وعايَنَه غيرُ مُدْرِكٍ، وإن لم يُحِطْ بأجزائِه كلِّها رؤيةً. قالوا: فرؤيةُ ما عايَنه الرائي إدراكٌ له دونَ ما لم يَرَه. قالوا: وقد أخْبَر اللهُ أن وُجوهًا يومَ القيامةِ إليه ناظرةٌ، قالوا: فمحالٌ أن تَكونَ إليه ناظرةً وهي له غيرُ مُدْرِكةٍ رؤيةً. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان غيرُ جائزٍ أَن يَكونَ في أخبارِ اللهِ تضادٌّ وتعارُضٌ، وجَب وصحَّ أن قولَه: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾. على الخصوصِ لا على العمومِ، وأن معناه: لا تُدْرِكُه الأبصارُ في الدنيا، وهو يُدْرِكُ الأبصارَ في الدنيا والآخرةِ. إذ كان اللهُ قد اسْتَثْنَى ما اسْتَثْنَى منه بقولِه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.

وقال آخَرون من أهلِ هذه المقالةِ: الآيةُ على الخصوصِ، إلا أنه جائزٌ أن يَكونَ


(١) في م: "المتنشم". وتنسَّم النسيم: تشممه. اللسان (ن س م).
(٢) الأعراف، جمع عَرْف: الريح، طيبة كانت أو خبيثة. اللسان (ع ر ف).
(٣) في م: "للمتنشم".
(٤) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣، س، ف: "انقضاء البصر".