للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذا الخبرُ أولُه مُخالِفٌ معْناه معنى الروايةِ التي رُوِيتْ عن ابنِ عباسٍ مِن روايةِ الضحاكِ التي قدمْنا ذِكْرَها قبلُ، وموافقٌ معنى آخرِه معناها، وذلك أنه ذُكِر في أوَّلِه أن الملائكةَ سأَلت ربَّها: ما ذاك الخليفةُ؟ حين قال لها: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. فأجابها أنه تكونُ له ذُرِّيةٌ يُفسِدُون في الأرضِ وَيَتَحَاسَدُون ويَقتلُ بعضُهم بعضًا، فقالت الملائكةُ حينئذٍ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾. فكان قولُ الملائكةِ ما قالت لربِّها من ذلك بعدَ إعلامِ اللهِ إياها أن ذلك كائنٌ من ذريةِ الخليفةِ الذي يجعَلُه في الأرضِ. فذلك معنى خلافِ أولِه معنى خبرِ الضحاكِ الذي ذكرْناه.

وأما موافقتُه إياه في آخرِه، فهو قولُهم في تأويلِ قولِه: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن بني آدمَ يفسِدون في الأرضِ ويَسْفِكون الدماءَ، وأن الملائكةَ قالت - إذ قال لها ربُّها ذلك - تَبَرِّيًا مِن علمِ الغيبِ: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.

وهذا إذا تدَبَّره ذو الفهمِ، علِم أنَّ أولَه يُفْسِدُ آخرَه، وأن آخِرَه يُبطِلُ معنى أولِه، وذلك أن اللهَ تعالى ذكره إن كان أخبَر الملائكةَ أن ذريةَ الخليفةِ الذي يَجْعَلُه في الأرضِ تُفْسِدُ فيها وتَسْفِكُ الدماءَ، فقالتِ الملائكةُ لربِّها: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾. فلا وجهَ لتوبيخِها على أن أخْبَرَت عمَّن أخبَرَها اللهُ عنه أنه يُفسِدُ في الأرضِ ويَسفِكُ الدماءَ، بمثلِ الذي أخْبَرَها عنهم ربُّها، فيَجُوزَ أن يُقالَ لها فيما طوَى عنها مِن العلومِ: إن كنتم صادقين فيما علِمْتُم بخبرِ اللهِ إياكم أنه كائنٌ مِن الأمورِ فأخْبَرْتُم به، فأخْبِرونا بالذي قد طوَى اللهُ عنكم علمَه، كما قد أخْبَرْتُمونا بالذي قد أطْلَعَكم اللهُ [على علمِه] (١) - بل ذلك خُلْفٌ مِن التأويلِ، ودعوَى على اللهِ


(١) في م: "عليه".