للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقولُ تعالى ذكرُه لنبيِّه محمدٍ : حَذِّرْ هؤلاء العابدين غيرى، والعادِلين بي الآلهةَ والأوثانَ سَخَطِى، [لا أحلُّ] (١) بهم عقوبتى فأُهلِكَهم كما أهلَكْتُ من سَلَكَ سبيلَهم مِن الأممِ قبلَهم، فكثيرًا ما أهلكتُ قبلَهم مِن أَهلِ قُرًى عَصَونى، وكذَّبوا رسولى، وعبدوا غيرى، ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا﴾. يقولُ: فجاءتهم عقوبتُنا ونِقْمَتُنا ليلًا قبلَ أن يُصبحوا، أو جاءتهم قائلين، يعني: نهارًا في وقتِ القائلةِ.

وقيل: ﴿وَكَمْ﴾. لأن المرادَ بالكلامِ ما وصفْتُ مِن الخبرِ عن كثرةِ ما قد أصابَ الأممَ السالفةَ مِن المثلاتِ بتَكْذيبِهم رسلَه، وخلافِهم عليه، وكذلك تفعَلُ العربُ إذا أرادوا الخبرَ عن كثرةِ العددِ، كما قال الفَرَزْدَقُ (٢):

كُمْ عَمَّةٍ لكَ يا جريرُ وخالةٍ … فَدْعاءَ (٣) قد حَلَبَتْ عليّ عِشَارِى

فإن قال قائلٌ: فإن الله تعالى ذكرُه إنما أخبَر أنه أهلَك قُرًى، فما في خبرِه عن إهلاكِه القُرى مِن الدليلِ على إهلاكِه أهلَها؟

قيل: إن القُرى لا تُسمَّى قُرًى، ولا القريةَ قريةً، إلا وفيها مساكنُ لأهلِها وسكانٌ منهم، ففى إهلاكِها إهلاكُ مَن فيها مِن أهلِها.

وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ يرى أن الكلامَ خَرَجَ مخرجَ الخبرِ عن القريةِ، والمرادُ به أهلُها.

والذي قلنا في ذلك أَولى بالحقِّ، لموافقتِه ظاهرَ التنزيلِ المَتَلُوِّ.

فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ


(١) في النسخ: "لأحل". والمثبت هو الصواب.
(٢) ديوانه ص ٤٥١، وفيه: كم خالة لك يا جرير وعمة.
(٣) الفدع: عوج وميل في المفاصل كلها خلقة أو داء. اللسان (ف د ع).