للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

موجودون تَرَوْنهم وتُعايِنونهم، وعَلِمه غيرُكم بتَعْليمِى إياه، فأنتم بما هو غيرُ موجودٍ مِن الأمورِ الكائِنَةِ التى لم توجَدْ بعدُ، وبما هو مُتَستِّرٌ من الأُمورِ -التى هى موجودةٌ- عن أعينِكم، أحْرَى أن تكونوا غيرَ عالمين، فلا تَسْألونى ما ليس لكم به علمٌ، فإنى أعلمُ بما يُصْلِحُكم ويُصْلِحُ خَلْقى.

وهذا الفعلُ مِن اللهِ تعالى ذكرُه بملائكتِه الذين قالوا له: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾. مِن جهةِ عِتابِه تعالى ذِكرُه إياهم -نظيرُ قولِه لنبيِّه نوحٍ صلّى اللهُ عليه، إذ قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ - ﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: ٤٥، ٤٦]. فكذلك الملائكةُ سأَلت ربَّها أن تكونَ خُلفاءَه في الأرضِ ليُسَبِّحوه ويُقَدِّسوه فيها؛ إذ كان ذريةُ مَن أخْبَرهم أنه جاعلُه في الأرضِ خليفةً يُفْسِدون فيها ويَسْفِكون الدماءَ، فقال لهم تعالى ذكرُه: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾. يعنى بذلك: إنى أعْلَمُ أن بعضَكم فاتحُ المعاصى وخاتِمُها. وهو إبليسُ، مُنْكِرًا بذلك (١) تعالى ذِكرُه قولَهم. ثم عرَّفهم موضِعَ هَفْوتِهم، في قِيلهم ما قالوا مِن ذلك، بتعريفِهم قُصورَ علمِهم عمّا هم له شاهِدون عِيانًا -فكيف بما لم يَرَوْه ولم يُخْبَروا عنه؟ - بعرْضِه ما عرَض عليهم مِن خلقِه الموجودين يومَئذٍ، وقيلِه لهم: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنكم إن اسْتَخْلَفْتُكم في أرْضى سبَّحْتمونى وقدَّسْتُمونى، وإن اسْتخْلَفْتُ فيها غيرَكم عَصانى ذُريتُه وأفْسَدوا وسَفَكوا الدماءَ. فلمَّا اتَّضَح لهم موضِعُ خطأِ قيلِهم، وبَدَت لهم هفوةُ زَلَّتِهم، أنابوا إلى اللهِ بالتوبةِ فقالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾. فسارَعوا الرَّجْعةَ مِن


(١) في ت ١، ت ٢: "بعد ذلك".