للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقولُه: ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾. يعنى: مِن زِنَةِ نملةٍ صغيرةٍ؛ يُحْكَى عن العربِ: خُذْ هذا، فإنه أَخَفُّ مِثْقالًا مِن ذاك. أى أخفُّ وَزْنًا.

والذَّرَّةُ واحدةُ الذَّرِّ، والذَّرُّ صِغارُ النملِ. وذلك خبرٌ عن أنه لا يَخْفَى عليه أصغرُ الأشياءِ وإن خَفَّ فى الوزنِ كلَّ الخِفِّةِ، ومقاديرُ ذلك ومبلغُه، ولا أكبرُها وإن عَظُمَ وثَقُلَ وزنُه، وكم مبلغُ ذلك. يقولُ تعالى ذكرُه لخلقِه: فليكنْ عملُكم، أيُّها الناسُ، فيما يُرْضِى ربَّكم عنكم، فإنَّا شهودٌ لأعمالِكم، لا يَخْفَى علينا شيءٌ منها، ونحن مُحْصُوها ومُجازُوكم بها.

واختلَفَت القرأةُ فى قراءةِ قولِه: ﴿وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ﴾.

فقرأ ذلك عامَّةُ القرأةِ بفتحِ "الراءِ" مِن ﴿أَصْغَرَ﴾ و ﴿أَكْبَرَ﴾ على أن معناها الخفضُ، عطفًا بالأصغرِ على الذَّرَّةِ، وبالأكبرِ على الأصغرِ، ثم فُتِحَت راؤُهما؛ لأنهما لا يَجْرِيان (١). وقَرَأَ ذلك بعضُ الكوفيِّين: (وَلا أَصْغَرُ مِن ذلك وَلَا أكْبَرُ) رفعًا (٢)؛ عطفًا بذلك على معنى المِثْقالِ؛ لأن معناه الرفعُ، وذلك أن "مِن" لو أُلِغيت (٣) من الكلامِ لرُفِعَ المِثْقَالُ، وكان الكلامُ حينَئذٍ: وما يَعْزُبُ عن ربِّك مثقالُ ذَرَّةٍ، ولا أصغرُ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، ولا أكبرُ. وذلك نحوُ قولِه: (مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللهِ) و ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٣].

وأوْلى القراءتَين في ذلك بالصوابِ (٤) قراءةُ مَن قَرَأَ بالفتحِ، على وَجْهِ الخَفضِ والرَّدِّ على الذرَّةِ؛ لأن ذلك قراءةُ قرأةِ الأمصارِ، وعليه عوامُّ القرأةِ، وهو أصحُّ في


(١) هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر والكسائي. السبعة لابن مجاهدٍ ص ٣٢٨. والتيسير ص ١٠٠.
(٢) هي قراءة حمزة وحده. السبعة لابن مجاهدٍ ص ٣٢٨، والتيسير ص ١٠٠.
(٣) في م: "ألقيت".
(٤) القراءتان كلتاهما صواب.