للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معه، فمرُّوا بمُقْعَدٍ على ظهرِ الطريقِ مُلْقًى، فلما رآهما نادَى: يا سيدَ الرُّهْبانِ، ارْحَمْنى رحِمك (١) اللهُ. فلم يُكَلِّمْه، ولم يَنْظُرْ إليه، وانْطَلَقا حتى أتَيَا بيتَ المقدسِ، فقال الشَّيخُ لسلمانَ: اخْرُجْ فاطْلُبِ العلمَ، فإنه يَحْضُرُ هذا المسجدَ عُلماءُ أهلِ الأرضِ. فخرَج سلمانُ يَسْمَعُ منهم، فرجَع يومًا حَزينًا، فقال له الشَّيخُ: ما لك يا سلمانُ؟ قال: أَرَى الخيرَ كلَّه قد ذهَب به مَن كان قبلَنا مِن الأنبياءِ وأتباعِهم. قال له الشَّيخُ: يا سلمانُ، لا تَحْزَنْ، فإنه قد بقِى نبيٌّ ليس مِن نبيٍّ أفضلَ تَبَعًا منه، وهذا زمانُه الذي يَخْرُجُ فيه، ولا أُرَانى أُدْرِكُه، وأما أنت فشابٌّ فلعلك أن تُدْرِكَه، وهو يَخْرُجُ في أرضِ العربِ، فإن أدْرَكْتَه فآمِنْ به واتَّبِعْه. فقال له سلمانُ: فأخْبِرْنى عن علامتِه بشيءٍ. قال: نعم، هو مَخْتومٌ في ظهرِه بخاتمِ النُّبُوةِ، وهو يَأْكُلُ الهَديَّةَ، ولا يَأْكُلُ الصدقةَ. ثم رجَعا حتى بلَغا مكانَ المُقْعَدِ، فناداهما فقال: يا سيدَ الرُّهْبانِ، ارْحَمْنى رحِمك (١) اللهُ. فعطَف إليه حمارَه، وأخَذ بيدِه فرَفَعه، وضرَب به الأرضَ، ودعا له، وقال: قُمْ بإذنِ اللهِ. فقام صحيحًا يَشْتَدُّ (٢). فجعَل سلمانُ يَتَعَجَّبُ وهو يَنْظُرُ إليه يَشْتَدُّ، وسار الراهبُ، فتغَيَّب عن سلمانَ، ولا يَعْلَمُ سَلْمانُ. ثم إن سلمانَ فزِع، فطلَب الراهبَ، [فلقِى رجلين] (٣) مِن العربِ مِن كَلْبٍ، فسأَلهما: هل رأيْتُما الراهبَ؟ فأناخ أحدُهما راحلتَه، قال: نِعْمَ راعى الصِّرْمةِ (٤) هذا (٥)! فحمَله فانْطَلَق به إلى المدينةِ. قال سلمانُ: فأصابَنى مِن الحزنِ شيءٌ لم يُصِبْنى مثلُه قطُّ. فاشْتَرَتْه امرأةٌ مِن جُهَيْنةَ، فكان يَرْعَى عليها هو وغلامٌ لها يَتَراوَحان الغنمَ، هذا يومًا وهذا يومًا، وكان سلمانُ يَجْمَعُ الدراهمَ يَنْتَظِرُ خروجَ


(١) في م: "يرحمك".
(٢) يشتد: يسرع ويعدو. اللسان (ش د د).
(٣) فى م، ت ١، ت ٢، ت ٣: "فلقيه رجلان".
(٤) الصرمة: القطيع من الإبل والغنم. انظر اللسان (ص ر م).
(٥) في ت ١، ت ٢: "هذه".