للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عمِلوا قبلَ الحِيتانِ، وما عمِلوا بعدَ الحِيتانِ، فذلك قولُه: ﴿مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ (١).

وأوْلَى هذه التأويلاتِ بتأويلِ الآيةِ ما رواه الضَّحَّاكُ عن ابنِ عباسٍ، وذلك لما وصَفْنا مِن أن الهاءَ والألفَ في قولِه: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا﴾. بأن تكونَ مِن ذِكْرِ العقوبةِ والمَسْخةِ التى مُسِخها القومُ أولى منها بأن تكونَ مِن ذكرِ غيرِها؛ مِن أجلِ أن اللهَ جلَّ ثناؤُه إنما يُحَذِّرُ خلقَه بأسَه وسَطْوتَه، وبذلك يُخَوِّفُهم، وفى إبانتِه عزَّ ذكرُه بقولِه: ﴿نَكَالًا﴾. أنه عنَى به العقوبةَ التى أحَلَّها بالقومِ - ما يُعْلِمُ أنه عنَى بقولِه: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾. فجعَلْنا عقوبتَنا التى أحْلَلْناها بهم عُقوبةً لما بينَ يديها وما خلفَها، دونَ غيرِه مِن المعانى. وإذا كانت الهاءُ والألفُ بأن تكونَ مِن ذكرِ المَسْخةِ والعُقوبةِ أولى منها بأن تكونَ مِن ذكرِ غيرِها، فكذلك العائدُ في قولِه: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾. مِن الهاءِ والألفِ، أن يكونَ مِن ذكرِ الهاءِ والألفِ اللتين في قولِه: ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾. أولى مِن أن يَكونَ مِن غيرِه.

فتأويلُ الكلامِ -إذا كان الأمرُ على ما وصَفْنا-: فقلنا لهم: كونوا قردةً خاسِئِين. فجعَلْنا عُقوبتَنا لهم عقوبةً لما بينَ يديها مِن ذنوبِهم السالفةِ منهم، مَسْخَنا إياهم، وعقوبتَنا لهم، ولما خلْفَ عقوبتِنا لهم مِن أمثالِ ذنوبهم، أن يَعْمَلَ بها عاملٌ، فيُمْسَخوا مثلَ ما مُسِخوا، وأن يَحِلَّ بهم مثلُ الذى حلَّ بهم. تَحْذيرًا مِن اللهِ تعالى ذكرُه عبادَه أن يَأْتوا مِن مَعاصِيه، مثلَ الذى أتَى المَمْسُوخون فيُعاقَبوا عقوبتَهم.

وأما الذى قال في تأويلِ ذلك ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾: يعنى الحِيتانَ؛ عُقوبةً لما بينَ


(١) عزاه السيوطي في الدر المنثور ١/ ٧٦ إلى المصنف بنحوه.