للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فيه فينتابُه، وإن هؤلاء القومَ لا يَدْرون مِن حيثُ جاءهم الحيْنُ، وهم أولو الألباب والعقول، ليسوا ببقرٍ ولا حميرٍ، وإنى ضاربٌ لهم مثلًا فلْيَسْمعوه: قل لهم: كيف تَرَون في أرضٍ كانت خواءً زمانًا، خَرِبةً مواتًا لا عُمران فيها، وكان لها ربٌّ حكيمٌ قويٌّ، فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تَخْرَبَ أرضُه وهو قويٌّ، أو يُقالَ: ضيَّع وهو حكيمٌ. فأحاط عليها جدارًا، وشيَّدَ فيها قصرًا، وأنْبَط فيها نهرًا، وصفَّ فيها غراسًا من الزيتون والرُّمان والنخيل والأعناب، وألوان الثمار كلِّها، ووَلَّى ذلك واسْتَحْفَظه قيِّمًا ذا رأي وهمّةٍ، حفيظًا قويًا أمينًا، وتأنّى طَلْعَها وانْتَظَرها، فلما أطلعت جاء طَلْعُها خَرُوبًا (١)، قالوا: بئْست الأرضُ هذه، نرى أن يُهْدَمَ جدرانُها وقصرُها، ويُدْفَنَ نهرُها، ويُقْبَضَ قيِّمُها، ويُحَرَّقَ غراسُها، حتى تصير كما كانت أوّلَ مرَّةٍ، خَرِبةً مواتًا لا عُمران فيها. قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي، وإن القصر شريعتي، وإن النهرَ كتابي، وإن القَيَّمَ نبيِّى، وإن الغراسَ هم، وإن الخَرُّوبَ الذي أطْلَع الغراسُ أعمالُهم الخبيثةُ، وإني قد قضَيتُ عليهم قضاءَهم على أنفسهم، وإنه مَثَلٌ ضربه الله لهم، يتَقَرَّبون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالُنى اللحمُ ولا أكُلُه، ويَدَعُون أن يَتَقَرَّبوا بالتقوى والكفِّ عن ذبح الأنفس التي حرَّمتُها، فأيديهم مخضوبةٌ منها، وثيابُهم مُتَزمِّلةٌ بدمائها، يُشَيِّدون لى البُيوتَ مساجدَ ويُطَهِّرون أجوافَها، ويُنَجِّسُون قلوبَهم وأجسامَهم ويُدَنِّسونها، ويُزَوِّقون لى البيوت والمساجد ويُزَيِّنونها، ويُخْرِبون عُقولهم وأحلامَهم ويُفْسِدونها، فأيُّ حاجةٍ لى إلى تشييدِ البيوتِ ولستُ (٢) أسكنُها! وأيُّ حاجةٍ إلى تزويق المساجد ولَسْتُ أَدْخُلُها! إنما


(١) الخروب: نبت معروف، بري وشامي، البرى منه شَوِكٌ وبشع، لا يؤكل إلا في الجهد. ينظر التاج (خ ر ب).
(٢) في ص، ف: "ليست".