للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصبَروا وصدَقوا حتى عزَّ أمرى، وظهَر دينى، فتأنَّيتُ بهؤلاء القومِ لعلَّهم يستجيبون فأطْوَلتُ لهم، وصفَحتُ عنهم، لعلَّهم يَرجِعون، فأكثَرتُ ومدَدتُ لهم في العمرِ لعلّهم يتذكَّرون، فأعذرتُ في كلِّ ذلك، أُمطِرُ عليهم السماءَ، وأُنبِتُ لهم الأرضَ، وأُلبِسُهم العافيةَ، وأظهِرُهم على العدوِّ، فلا يزدادون إلا طغيانًا وبُعدًا منى، فحتى متى هذا؟! أبى يتمرَّسون؟ أم إيَّاىَ يُخادعون؟ وإنى أحلِفُ بعزَّتى لأُقيِّضنَّ لهم فتنةً يتحيّرُ فيها الحليمُ، ويَضِلُّ فيها رأىُ ذى الرأى، وحكمةُ الحكيمِ، ثم لأُسلِّطنَّ عليهم جبّارًا قاسيًا عاتيًا، أُلبِسُه الهيبةَ، وأنتزِعُ مِن صدرِه الرأفةَ والرحمةَ واللِّيانَ (١)، يتبَعُه عددٌ وسوادٌ مثلُ سوادِ الليلِ المظلمِ، له عساكرُ مثلُ قِطَعِ السحابِ، ومراكبُ أمثالُ العَجَاجِ، كأن حفيفَ (٢) راياتِه طيرانُ النسورِ، وإن حَمْلةَ فُرسانِه كريرُ (٣) العِقبانِ.

ثم أوحَى اللَّهُ إلى إرميا: إنى مُهلكٌ بني إسرائيلَ بيافثَ - ويافثُ أهلُ بابلَ، وهم من ولدِ يافثِ بن نوحٍ - فلمّا سمع إرميا وحىَ ربَّه صاح وبكَى وشقَّ ثيابَه، ونبَذ الرمادَ على رأسِه فقال: ملعونٌ يومٌ وُلدتُ فيه، ويومُ لُقِّيتُ التوراةَ، ومن شرِّ أيامى يومٌ ولدتُ فيه، فما أُبقيتُ آخرَ الأنبياءِ إلا لما هو شرٌّ عليَّ، لو أراد بى خيرًا ما جعَلنى آخرَ الأنبياءِ من بنى إسرائيلَ، فمِن أجلى تُصيبُهم الشِّقوةُ والهلاكُ، فلما سمِع اللَّهُ تضرُّعَ الخَضِرِ وبكاءَه، وكيف يقولُ، ناداه: يا إرميا، أشَقَّ عليك ما أوحيتُ لك؟ قال: نعمْ، يا ربِّ أهلِكْنى قبلَ أن أرى في بنى إسرائيلَ ما لا أُسَرُّ به. فقال اللَّهُ: وعزَّتى العزيزةِ، لا أُهلِكُ بيتَ المقدسِ وبنى إسرائيلَ حتى يكونَ الأمرُ مِن قِبَلِكَ في ذلك. ففرِح عندَ ذلك إرميا لِمَا قال له ربُّه، وطابت نفسُه، وقال: لا، والذي بعَث


(١) في النسخ: "البيان". والمثبت كما في التاريخ. والليان: الملاينة. اللسان (ل ى ن)
(٢) في ص، ت ٢، ف: "حفيق". وفى م، ت،١، وفى التاريخ: "خفيق". وينظر البداية والنهاية ٢/ ٣٦٦.
(٣) في: "كوبر". والكرير: صوت في الصدر مثل الحشرجة وليس بها، وكذلك هو من الخيل في صدورها، وقيل: هو صوت كصوت المختنق أو المجهود. التاج (ك ر ر).