للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كان من قولِهم إن بيْنونتَه من عرشِه وبيْنونتَه من أرضِه بمعنى واحدٍ في أنَّه بائنٌ مِنهما كلَيهما، غيرُ مماسٍّ لواحدٍ منهما.

وقالت فرقةٌ أُخرَى: كان اللَّهُ تعالى ذكرُه قبلَ خلْقِه الأشياءَ، لا شيءَ يماسُّه، ولا شيءَ يُباينُه (١)، ثم خلَق الأشياءَ فأقامَها بقُدرتِه، وهو كما لم يزلْ قبلَ خلقِه الأشياءِ لا شيءَ يماسُّه ولا شيءَ يباينُه.

فعلَى قولِ هؤلاء أيضًا سواءٌ أقعَد محمدًا على عرشِه، أو على أرضِه، إذ كان سواءٌ على قولِهم عرشِه وأرضِه في أنَّه لا مماسَّ ولا مباينَ لهذا، كما أنَّه لا مماسَّ ولا مباينَ لهذه.

وقالت فرقةٌ أخرَى: كان اللَّهُ عزَّ ذكرُه قبلَ خلْقِه الأشياءَ لا شيءَ يماسُّه، ولا شيءَ يباينُه، ثم أحدثَ الأشياءِ وخلَقَها، فخلَقَ لنفسِه عرشًا اسْتَوى عليه جالسًا (٢)، وصار له مماسًّا، كما أنَّه قد كان قبلَ خلقِه الأشياءَ لا شيءَ يرزقُه رزقًا، ولا شيءَ يحرمُه ذلك، ثم خلَق الأشياءَ فرزَق هذا وحرَم هذا، وأعطَى هذا، ومنَع هذا. قالوا: فكذلك كان قبلَ خَلْقِه الأشياءَ، لا شيءَ يماسُّه ولا يباينُه، وخلَق الأشياءِ فماسَّ العرشَ بجلوسِه عليه دونَ سائرِ خلْقِه، فهو مماسٌّ ما شاء مِن خلْقِه، ومباينٌ ما شاء مِنه.

فعلَى مذهبِ هؤلاء أيضًا سواءٌ أقعَد محمدًا على عرشِه، أو أقعَدَه على مِنبَرٍ من نورٍ، إذ كان من قولِهم: إن جلوسَ الربِّ ﷿ على عرشِه ليس بجلوسٍ يشغَلُ جميعَ العرشِ. ولا في إقعادِ محمدٍ موجِبًا له صفةَ الرُّبوبيَّةِ، ولا مُخرِجَه من


(١) بعده في ص، ت ١، ت ٢، ف: "ثم يباينه".
(٢) الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فلا يحل تأويل الاستواء بالجلوس، فهذا تأويل فاسد، وينظر شرح العقيدة الطحاوية ٢/ ٣٧٢ وما بعدها.