للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقديمًا ما وطَّنْتُ نفسِي ومالي على الفناءِ. قال إبليسُ: وإن ربَّك أرسَل عليها نارًا من السماءِ فاحتَرقَتْ ورُعاتُها حتى أتَى على آخرِ شيءٍ منها ومن رُعاتِها، فتَرَكْتُ الناسَ مَبهوتينَ وهم وُقوفٌ عليها يتعجَّبون؛ منهم من يقولُ: ما كان أيوبُ يعبُدُ شيئًا، وما كان إلا في غُرورٍ. ومنهم من يقولُ: لو كان إلهُ أيوبَ يقدِرُ على أن يصنَعَ (١) من ذلك شيئًا لمنَع وَلِيَّه. ومنهم من يقولُ: بل هو فعَل الذي فَعَل ليُشمِتَ (٢) به عدَّوه، وليُفجِعَ به صديقَه. قال أيوبُ: الحمدُ للهِ حينَ أعْطاني، وحينَ نزَع منى، عُرْيَانًا خرَجتُ من بطنِ أُمِّي، وعُريانًا أعودُ في الترابِ، وعُريانًا أُحشَرُ إلى اللهِ، ليس ينبَغى لك أن تفرَحَ حينَ أعارَك اللهُ، وتجزَعَ حينَ قبَض عاريَتَه، اللهُ أولَى بك وبما أعْطاكَ، ولو علمِ اللهُ فيك أيُّها العبدُ خيرًا لنقَل (٣) رُوحَك مع ملَكِ (٤) الأرواحِ، فأجرى (٥) فيك وصرْتَ شهيدًا، ولكنه علِم منك شرًّا فأخَّرك من أجلِه، فعرَّاك اللهُ من المصيبةِ، وخلَّصَك من البلاءِ كما يُخلَّصُ الزَّوانُ (٦) من القمحِ الخَلاصِ.

ثم رجَع إبليسُ إلى أصحابِه خاسئًا ذليلًا، فقال لهم: ماذا عندَكم من القوَّةِ، فإني لم أُكلِّمْ قلبَه؟ قال عفريتٌ من عظمائِهم: عندِى من القوَّةِ ما إذا شئتُ صِحتُ صوتًا لا يسمَعُه ذو رُوحٍ إلا خرَجت مهجةُ نفسِه. قال له إبليسُ: فأتِ الغنَمَ ورُعاتَها. فانطلَق يؤمُّ الغنمَ ورُعاتَها، حتى إذا وَسَطها (٧) صاحَ صوتًا جثَمت أمواتًا


(١) في م: "يمنع".
(٢) في ص، ت ٢، ف: "وليشمت"
(٣) في ت ١: "ليتقبل"، وفى ف: "ليقبل".
(٤) في ف، وعرائس المجالس: "تلك".
(٥) في م: "فأجرني".
(٦) الزوان والزؤان: عشب ينبت بين أعواد الحنطة غالبا، حبه كحبها، إلا أنه أسود وأصفر، وهو يخالط البر، فيكسبه رداءة. الوسيط (زأن، زون).
(٧) في ت ١، وعرائس المجالس: "توسطها".