من عندِ آخرِها ورعاؤُها. ثم خرَج إبليسُ متمثِّلًا بقَهْرمانِ (١) الرِّعاءِ، حتى إذا جاءَ أيوبَ وجَده وهو قائمٌ يُصلِّى، فقال له القولَ الأوّلَ، ورَدَّ عليه أيوبُ الردَّ الأَوَّلَ، ثم إن إبليسَ رجَع إلى أصحابِه، فقال لهم: ماذا عندَكم من القوَّةِ، فإني لم أُكلِّمْ قلبَ أيوبَ؟ فقال عفريتٌ من عظمائِهم: عندى من القوَّةِ إذا شئتُ تحوَّلتُ رِيحًا عاصِفًا تنسِفُ كلَّ شيءٍ تأتِى عليه، حتى لا أُبْقيَ شيئًا. فقال له إبليسُ: فأتِ الفدادينَ والحرْثَ. فانطلَق يؤمُّهم، وذلك حين قَرَّبوا الفَدادينَ، وأنشَئوا في الحرْثِ، والأُتُنُ وأولادُها رُتوعٌ، فلم يَشعروا حتى هبَّت ريحٌ عاصفٌ تنسِفُ كلَّ شيءٍ من ذلك، حتى كأنه لم يكُنْ. ثم خرج إبليسُ متمثِّلًا بقهْرمانِ الحَرْثِ حتى جاء أيوبَ وهو قائمٌ يصلِّي، فقال له مثلَ قولِه الأوَّلِ، ورَدَّ عليه أيوبُ مثلَ ردِّه الأوَّلِ.
فلما رأى إبليسُ أنه قد أفنَى مالَه، ولم يُنْجِحْ منه، صعِد سريعًا حتى وقَف من اللهِ الموقف الذي كان يقِفُه، فقال: يا إلهى، إن أيوبَ يرَى أنك ما متَّعتَه بنفسِه وولَدِه، فأنت مُعْطِيه المالَ، فهل أنت مُسلِّطى على ولَدِه؟ فإنها الفتْنةُ المضلةُ، والمصيبةُ التي لا تقومُ لها قلوبُ الرجالِ، ولا يقوَى عليها صبرُهم. فقال اللهُ تعالى: انْطَلِق، فقد سلَّطتُك على ولدِه، ولا سلطانَ لك على قلبِه ولا جسَدِه، ولا على عَقْلِه. فانقَضَّ عدوُّ اللهِ جوادًا حتى جاءَ بنى أيوبَ وهم في قَصْرِهم، فلم يَزَلْ يُزِلْزِلُ بهم حتى تداعى من قواعدِه، ثم جعَل يناطِحُ جُدُرَ بعضِها ببعضٍ، ويرمِيهم بالخشَبِ والجندَلِ، حتى إذا مَثَّل بهم كلَّ مُثلَةٍ، رفَع بهم القصْرَ، حتى إذا أقلَّه بهم فصاروا فيه مُنَكَّسين، وانطلَق إلى أيوبَ متمثِّلًا بالمعلِّمِ الذي كان يعلِّمُهم الحكمةَ، وهو جريحٌ مشدوخُ الوجهِ، يسيلُ دمُه ودِماغُه، متغيِّرًا لا يكادُ يُعرَفُ من شدَّةِ التغيُّرِ والمُثْلَةِ التي جاء متمثِّلًا فيها، فلما نظَر إليه أيوبُ هالَه، وحزِن ودَمَعت عيناه، وقال
(١) القهرمان: هو المسيطر الحفيظ على من تحت يديه. اللسان (قهرم).