للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

له: يا أيوبُ، لو (١) رأيتَ كيف أفْلَتُّ من حيثُ أفلتُّ، والذي رمانَا به من فوقِنا ومن تحتِنا! ولو رأيتَ بنيكَ كيف عُذِّبوا وكيف مُثِّل بهم! وكيف قُلبوا فكانوا منكَّسين على رءوسِهم، تسيلُ دماؤُهم ودِماغُهم من أُنوفهم وأجوافِهم، وتقطُرُ من أشفارِهم! ولو رأيتَ كيف شُقَّتْ (٢) بطونهم فتناثَرَت أمعاؤُهم! ولو رأيتَ كيف قُذِفوا بالخشَبِ والجندَلِ يشدَحُ دِماغَهم! وكيف دقَّ بالخشبِ (٣) عظامَهم، وخرَق جلودَهم، وقطع عصَبَهم! ولو رأيتَ العَصَبَ عُريانًا ولو رأيتَ العظامَ مُتهَشِّمةً في الأجوافِ! ولو رأيتَ الوجوهَ مَشدوخةً! ولو رأيتَ الجُدُرَ تَناطَحُ عليهم! ولو رأيتَ ما رأيتُ لقُطِّعَ قلبُك. فلم يزَلْ يقولُ هذا ونحوَه، ولم يَزَلْ يرقِّقُه حتى رَقَّ أيوبُ فبكَى، وقبَض قبضةً من ترابٍ فوضَعها على رأسِه، فاغتنَم إبليسُ الفرصةَ منه عندَ ذلك، فصعِد سريعًا بالذي كان من جزَعِ أيوبَ مسرورًا به، ثم لم يلبَثْ أيوبُ أن فاء وأبصَرَ فاستغْفَر، وصَعِد قرناؤه من الملائكةِ بتوبةٍ منه، فبدَروا إبليسَ إلى اللهِ، فوجَدوه قد علِم بالذي رُفِع إليه من توبةِ أيوبَ، فوقَف إبليسُ خازيًا ذليلًا، فقال: يا إلهى، إنما هوَّن على أيوبَ خَطَرُ المالِ والولَدِ أنه يرَى أنك ما متَّعتَه بنفسِه، فأنت تعيدُ له المالَ والولدَ، فهل أنت مسلِّطى على جسَدِه؟ فأنا لك زعيمٌ، لئن ابتليتَه في جَسَدِهِ ليَنسينَّك، وليكْفُرَنَّ بك، وليَجْحَدنَّك نعمتَك. قال اللهُ: انطلِقْ فقد سلَّطتُك على جسَدِه، ولكن ليس لك سلطانٌ على لسانِه، ولا على قلبِه، ولا على عقلِه.

فانقضَّ عدوُّ اللهِ جوادًا، فوجَد أيوبَ ساجدًا، فعجَّل قبلَ أن يرفَعَ رأسَه، فأتاه من قِبَلِ الأرضِ في موضعِ وَجْهِه، فنفَخ في مِنخَرِه نفخةً اشتَعل منها جسدُه، فترهَّل


(١) في ص، ت ١، ت ٢: "قد".
(٢) في ت ١، ت ٢: "عضت"، وفى ف: "عقب"، وغير منقوطة في ص.
(٣) في م: "الخشب".