فيها وجوه الروايات عنهم، فإنه يُعنى بنفس القدر بالتفسير العقلي الذي يتعرض فيه لتوجيه الأقوال توجيهًا دقيقا وترجيح بعضها على بعض، وأيضًا فإن ابن جرير يهتم بالإعراب اهتمام الحذاق به؛ لما في اختلاف وجوه إعراب آي القرآن من اختلاف وجوه تأويله.
وقد أخذ الطبري النحو عن شيوخ مدرستي البصرة والكوفة حتى صار من أفراد النحاة في عصره وذلك ظاهرٌ في تفسيره، فهو يورد آراء المدرستين في بيان وجوه الإعراب المختلفة، ثم يرجح ما يراه صوابًا في تأويل الآية.
ولأن القرآن نزل بلغة العرب، فإن من أوجه تأويله ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، لا يوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم (١)؛ ومِن ثَمَّ ظهرت فحولة الطبري أيضًا في علوم اللغة العربية صرفًا وتركيبا ودلالة، فمن اطلع على تفسيره، ووقف على تبيينه للمعاني وغريبها، واستشهاده بأشعار العرب في الجاهلية والإسلام، يعتقد أن الرجل قد انقطع لهذا العلم ولم يطلب غيره، فعلى الرغم من نقله عن الفراء في "معاني القرآن" وأبي عبيدة في "مجاز القرآن"، إلا أنه كثيرًا ما يخطئهما ويرد عليهما ويذكر خلاف ما قالا، شافعًا ما يذكره بالحجة الدامغة والبرهان الساطع وكلام العرب وأشعارهم، وهذا يدل على أن الطبري فارس ميدان وممارس فصاحة وبيان، نشر التفسير نشرًا وطار به ذِكرًا، فهو - بحق - إمام المفسرين وقدوة المتأولين.
وقد عاش الطبري في القرن الثالث الهجري، وهو من القرون المشهود لها بالخيرية، فإذا اجتمع له مع ذلك ما حباه الله به من قوة الحافظة والحصافة والذكاء،
(١) انظر مقدمة المصنف في تفسيره ص ٩٢ من النص المحقق.