للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان مُحالًا أن يكونَ العبدُ عابدًا إلا وهو على العبادةِ مُعانٌ، وأن يكونَ مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعلٌ - كان سواءً تقديمُ ما قُدِّم منهما على صاحبِه، كما سواءٌ قولُك لرجلٍ (١) قضَى حاجتَك فأحْسَن إليك في قضائِها: قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليَّ. فقدَّمْتَ ذكرَ قضائِه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليَّ فقضيتَ حاجتي. فقدَّمْتَ ذكرَ الإحسانِ على ذكرِ قضاءِ الحاجةِ؛ لأنه لا يكونُ قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسنٌ، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتِك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قولُ القائلِ: اللهم إنّا إياك نَعْبُدُ فأعِنَّا على عبادتِك. وقولُه: اللهم أعِنَّا على عبادتِك فإنّا إياك نعبُدُ.

قال أبو جعفرٍ: وقد ظنَّ بعضُ أهلِ الغَفْلةِ أن ذلك مِن المُقَدَّمِ الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرُؤُ القيسِ (٢):

فلو أنَّ ما أسْعَى لأدْنَى مَعيشةٍ … كفاني - ولم أطْلُبْ - قليلٌ مِن المالِ

يُريدُ بذلك: كفاني قليلٌ مِن المالِ، ولم أطْلُبْ كثيرًا. وذلك مِن معاني التقديمِ والتأخيرِ، ومِن مُشابهةِ بيتِ امرِئِ القيسِ بمعْزِلٍ، مِن أجلِ أنه قد يَكْفِيه القليلُ مِن المالِ ويَطْلُبُ الكثيرَ، فليس وجودُ ما يَكْفِيه منه بمُوجِبٍ له تركَ طلبِ الكثيرِ، فيكونَ نظيرَ العبادةِ التي بوجودِها وجودُ المعونةِ عليها، وبوجودِ المعونةِ عليها وجودُها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالًّا على الآخرِ، فيعتدلَ في صحةِ الكلامِ تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبِه أن يكونَ موضوعًا في درجتِه ومرتَّبًا في مرتَبتِه.

فإن قال: فما وجهُ تَكرارِه: ﴿إِيَّاكَ﴾. مع قولِه: ﴿نَسْتَعِينُ﴾ وقد تقدَّم ذلك قبلَ: ﴿نَعْبُدُ﴾؟ وهلَّا قيل: إياك نعبُدُ ونستعينُ. إذ كان المُخْبَرُ عنه أنه المعبودُ هو المْخَبرُ عنه أنه المُسْتعانُ؟


(١) في م: "للرجل إذا".
(٢) ديوانه ص ٣٩.