فأمَّا مَذْهبُ مَن تَأوَّل في ذلك ما قاله الرَّبيعُ بنُ أنسٍ، فهو أنَّ اللَّهَ تعالى ذِكْرُه لما أخْبَر عن قومٍ من أهلِ الكفرِ بأنهم لا يؤمنون، وأنَّ الإنذارَ غيرُ نافعِهم، ثم كان مِن الكفارِ مَن قد نفَعه اللَّهُ بإنذارِ النبيِّ ﷺ إيَّاه؛ لإيمانِه باللَّهِ وبالنبيِّ ﷺ وما جاء به مِن عندِ اللَّهِ بعدَ نزولِ هذه السورةِ، لم يَجُزْ أن تكونَ الآيةُ نزَلَت إلَّا في خاصٍّ مِن الكفارِ، وإذ كان ذلك كذلك، وكانت قادةُ الأحزابِ لا شكَّ أنهم ممن لم يَنْفَعْه اللَّهُ ﷿ بإنذارِ النبيِّ ﷺ إيَّاه، حتى قتَلهم اللَّهُ ﵎ بأيدي المؤمنين يومَ بدرٍ، عُلِم أنهم ممن عَنى اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه بهذه الآيةِ.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارِنا ما اخْتَرنا مِن التأويلِ في ذلك، فهي أن قولَ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾. عَقِيبَ خبرِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُه عن مؤمني أهلِ الكتابِ، وعَقِيبَ نعتِهم وصفتِهم، وثنائِه عليهم بإيمانِهم به، وبكتبِه ورسلِه، فأَوْلَى الأمورِ بحكمةِ اللَّهِ أن يُتْلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفَّارِهم ونعوتِهم، وذمَّ أسبابِهم وأحوالِهم، وإظهارَ شتمِهم، والبراءةَ منهم؛ لأنَّ مؤمنيهم ومشركيهم وإن اخْتَلَفت أحوالُهم باختلافِ أديانِهم، فإنَّ الجنسَ يَجْمَعُ جميعَهم بأنهم بنو إسرائيلَ.
وإنما احتجَّ اللَّه جَلَّ ثناؤُه بأولِ هذه السورةِ لنبيِّه ﷺ على مشركي اليهودِ مِن أحبارِ بني إسرائيلَ الذين كانوا مع علمِهم بنبوَّتِه مُنْكِرين نبوَّتَه، بإظهارِ نبيِّه ﷺ على ما كانت تُسِرُّه الأحبارُ (١) منهم وتَكْتُمُه، فيَجْهَلُه عُظْمُ اليهودِ وتَعْلَمُه الأحبارُ منهم؛ ليَعْلَموا أن الذي أطْلَعه على علمِ ذلك هو الذي أَنْزَل الكتابَ على موسى عليه