للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال آخرون: قولُه: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾. وقولُه: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢]،. وقولُه: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩]. و ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]. وما أشْبه ذلك - إخبارٌ من اللهِ جلَّ ثناؤُه أنه مجازِيهم جزاءَ الاستهزاءِ، ومعاقبُهم عقوبةَ الخِداعِ، فأخْرج خبرَه عن جزائِه إيَّاهم وعقابِه (١) لهم، مُخْرَجَ خبرِه عن فعلِهم الذي عليه استحقُّوا العقابَ في اللفظِ، وإن اخْتَلف المعنَيان، كما قال جلَّ ثناؤُه: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]. ومعلومٌ أن الأُولَى من صاحِبها سيئةٌ، إذ كانت منه للهِ معصيةً، وأن الأخرى عَدْلٌ؛ لأنها من اللهِ جزاءٌ للعاصي على المعصيةِ، فهما - وإن اتَّفق لفظاهما - مختلفتا المعنى، وكذلك قولُه: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤]. فالعُدْوانُ الأولُ ظلمٌ، والثاني جزاءٌ لا ظلمٌ، بل هو عَدلٌ؛ لأنه عقوبةٌ للظالمِ على ظلمِه، وإن وافق لفظُه لفظَ الأولِ. وإلى مثلِ (٢) هذا المعنى وَجَّهوا كلَّ ما في القرآنِ من نظائرِ ذلك، مما هو خبرٌ عن مكرِ اللهِ جلَّ وعزَّ بقومٍ، وما أشْبَه ذلك.

وقال آخرون: إن معنى ذلك أن اللهَ جلَّ ثناؤُه أخْبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدتِهم قالوا: إنا معكم على دينِكم في تكذيب محمدٍ وما جاء به، وإنما نحن - بما نُظهرُ لهم من قولِنا لهم: صدَّقْنا بمحمدٍ وما جاء به - مستهزِئون.

يعنُون أنَّا نُظهرُ لهم ما هو عندَنا باطلٌ لا حَقٌّ ولا هُدًى. قالوا: وذلك هو معنًى من معاني الاستهزاءِ، فأخْبر اللهُ أنه يَسْتهزئُ بهم، فيُظهرُ لهم من أحكامِه في الدنيا خلافَ الذي لهم عندَه في الآخرةِ، كما أظْهروا للنبيِّ والمؤمنين في الدينِ ما هم على خلافِه في سرائرِهم.


(١) في ص: "معاقبته".
(٢) زيادة من: ر.