إرسال الرّسول لما لم يكن إلا ليطاع؛ كان من لم يطعه، ولم يرض بحكمه؛ لم يقبل رسالته، ومن كان كذلك؛ كان كافرا مستوجب القتل. انتهى.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ..}. إلخ: يرشد الله تعالى العصاة، والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته؛ فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنّهم إذا فعلوا ذلك؛ تاب الله عليهم، ورحمهم، وغفر لهم، ولهذا قال: {لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً،} وخذ ما يلي:
فقد روى أبو صالح عن عليّ-رضي الله عنه-قال: قدم علينا أعرابيّ بعد ما دفنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحثا على رأسه من ترابه، فقال: قلت يا رسول الله، فسمعنا قولك، ووعيت عن الله، فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ..}. إلخ، وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي! فنودي من القبر: أنّه قد غفر لك. انتهى قرطبي.
وفي مختصر ابن كثير: وقد ذكر جماعة منهم الشّيخ أبو منصور الصّباغ في كتابه: (الشّامل) الحكاية المشهورة عن العتبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجاء أعرابيّ، فقال:
السّلام عليك يا رسول الله! سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ..}. إلخ، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، ثمّ أنشد يقول: [البسيط]
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثمّ انصرف الأعرابيّ، فغلبتني عيني، فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النّوم، فقال: يا عتبيّ! الحق الأعرابي فبشره: أنّ الله قد غفر له.
هذا؛ وفي قوله تعالى: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} بعد قوله: {جاؤُكَ} إجلال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتفخيم له، وتعظيم لاستغفاره، وأنّهم إذا جاءوه؛ فقد جاءوا من خصّه الله برسالته، وجعله سفيرا بينه، وبين خلقه، ومن كان كذلك فإنّ الله تعالى لا يردّ شفاعته، فلهذا السبب عدل إلى طريقة الالتفات من الخطاب إلى لفظ الغيبة، فلم يقل: واستغفرت لهم، وإنّما قال:
{وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}. وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد.
هذه فوائده العامة. ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محلّه، كما هو مقرّر في علم البديع. ووجهه: حثّ السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل عليه المتكلّم، وأعطاه فضل عنايته، وخصّه بالمواجهة. هذا؛ وانظر: «استغفر» و «الاستغفار» في الآية رقم [١٣٥] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.