للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان النّخعي، والحسن، والشعبي-رحمهم الله-يأتون بالحديث على المعاني. وقال الحسن: إذا أصبت المعنى؛ أجزأك. وقال الثوريّ-رحمه الله تعالى-: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتّفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم، وذلك هو النقل بالمعنى، وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص علينا من أنباء ما قد سلف، فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربيّ، وهو مخالف لها في التقديم، والتأخير، والحذف، والإلغاء، والزيادة، والنقصان، وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية؛ فلأن يجوز بالعربية أولى. احتجّ بهذا المعنى الشافعي، والحسن.

وهو الصّحيح في الباب. انتهى قرطبي رحمه الله تعالى.

{وَإِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)}

الشرح: {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ:} طلب لهم السّقيا، فالسين، والتاء للطّلب. وكان ذلك لمّا عطشوا في التيه. والاستسقاء إنّما يكون عند عدم الماء، وحبس المطر، وإذا كان ذلك فالغاية منه إظهار العبوديّة، والتذلّل، والمسكنة، والفقر مع التّوبة النّصوح، وقد استسقى نبيّنا، وحبيبنا صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إلى المصلّى متواضعا، متذلّلا، متخشّعا، متوسّلا، متضرعا، وحسبك به، وكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد، ومخالفة ربّ العباد؟! فأنّى نسقى؟! لكن قال صلّى الله عليه وسلّم في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلاّ منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم؛ لم يمطروا».

{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ:} العصا معروف، وهو اسم مقصور مؤنث، ألفه منقلبة عن واو، وأصله: عصو، وتثنيته: عصوان، وعصوين، ومقتضى القياس في جمعها عصوّ، فأبدل من الواو الثانية ياء؛ لأنها طرف ليس بينها وبين الضمة إلا حرف ساكن، فصار، عصوي، فقل في إعلاله: اجتمعت الواو والياء، والأول ساكن، فقلبت الواو ياء فصار: (عصي) ثم قلبت ضمة العين كسرة لمناسبة الياء، قال تعالى في سورة (طه) رقم [٦٦]: {قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} وفي المثل: (العصا من العصية) وقولهم: ألقى عصاه؛ أي: أقام، وترك الأسفار، وهو مثل، قال معتمر بن حمار البارقي: [الطويل]

فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى... كما قرّ عينا بالإياب المسافر

وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع، والافتراق، ومنه يقال في الخوارج: شقّوا عصا المسلمين؛ أي: اجتماعهم، وائتلافهم. وانشقت العصا؛ أي: وقع الخلاف. قال الشاعر-وهو الشاهد رقم [٩٦٧] من كتابنا: «فتح القريب المجيب»، ونسب لجرير-: [الطويل]

<<  <  ج: ص:  >  >>