{فَأَعْرِضْ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدر؛ أي: فإذا كان هذا حالهم، وشأنهم؛ فأعرض. (أعرض): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب للشرط المقدّر ب «إذا» والتي بعدها معطوفة عليها. {وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [٧٠] وهي مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ:} أي: يتفهّمونه، فيعلمون: أنّه من عند الله، ويعلمون ما أعدّ الله للّذين لم يتولّوا عن الإسلام من الخير الكثير، والفضل العميم. أو المعنى: يتفكرون في مواعظه، وزواجره. وتدبّر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الهمّ وقت تلاوته، ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصّرف. والتدبير: أن يدبر الإنسان أمره، كأنّه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلّت هذه الآية، وقوله تعالى في سورة (محمّد صلّى الله عليه وسلّم): {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} على وجوب التّدبّر في القرآن؛ ليعرف معناه، وكان في هذا ردّ على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنع أن يتأوّل على ما يسوغه لسان العرب، وهذا قول الروافض، وقول من يجري مجراهم، ويتّبع هواهم.
{وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ..}. إلخ؛ أي: لو كان القرآن من كلام البشر، كما يزعم الكفار؛ {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً:} تناقضا في معانيه، وتباينا في نظمه، وكان بعضه فصيحا، وبعضه ركيكا، وبعضه تصعب معارضته، وبعضه تسهل، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، وموافقة الفعل لبعض أحكامه دون بعض؛ لنقصان القوّة البشرية عن الكمال.
قال العلماء: إنّ الله-عزّ وجلّ-احتجّ بالقرآن، والتدبّر فيه على صحّة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، والحجّة في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: فصاحته التي عجز الخلائق عن الإتيان بمثلها في أسلوبه. الثاني: إخباره عن الغيوب، وهو ما يطلع الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على أحوال المنافقين، وما يخفونه من مكرهم، وكيدهم، فيفضحهم بذلك، لا يعلمها إلا الله تعالى. الثالث: سلامته من الاختلاف، والتناقض.
هذا؛ ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات، وألفاظ الأمثال، والدّلالات، ومقادير السّور، والآيات، وإنّما أراد اختلاف التناقض، والتّفاوت، لذا أنزل الله-عزّ وجل-القرآن، وأمرهم بتدبّره؛ لأنّهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف، ولا ردّا له في معنى، ولا تناقضا، ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب، وما يسرّون.