{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ (٥٦)}
الشرح: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} أي: لئلا تقول، أو حذر أن تقول نفس. وإنما نكرت؛ لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، ويجوز أن يراد بها نفس متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعذاب أليم. ويجوز أن يراد التكثير، كما قال الأعشى: [الطويل] وربّ بقيع لو هتفت بجوّه... أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا
وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. {يا حَسْرَتى} أي: يا ندمي، ويا حزني، والتحسر: الاغتمام، والحزن على ما فات. {عَلى ما فَرَّطْتُ:} على ما ضيعت، أو:
على ما قاصرات. {فِي جَنْبِ اللهِ:} أمر الله، أو في طاعة الله، أو في ذاته، أو في حق الله. هذا؛ والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان، وجانبه، وناحيته، وفلان لين الجنب، والجانب، ثم قالوا: فرط في جنبه وفي جانبه، يريدون: في حقه، قال جميل بثينة: [الطويل]
أما تتّقين الله في جنب وامق... له كبد حرّى عليك تقطّع
وهذا من باب الكناية؛ لأنك إذا أثبت الأمر في جانب الرجل، وحيزه؛ فقد أثبته فيه، ألا ترى إلى زياد الأعجم يقول في عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور: [الكامل]
إنّ السّماحة والمروءة والندى... في قبّة ضربت على ابن الحشرج
فعن عائشة-رضي الله عنها-: أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من ساعة تمرّ بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير إلا تحسّر عليها يوم القيامة». رواه البيهقي، وغيره. وقال إبراهيم التيمي:
من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره، وعلى الآخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوّله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة منه عند الله عز وجل، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة؛ وعمي هو.
{وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ} أي: المستهزئين بدين الله، وبكتابه، وبرسوله، وبالمؤمنين. قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله؛ حتى سخر من أهلها. هذا؛ وبين سيد الخلق، وحبيب الحق صلّى الله عليه وسلّم: أن كل إنسان سيندم بعد الموت، ويتحسر، سواء أكان محسنا، أم مسيئا. وخذ ما يلي، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد يموت إلاّ ندم».
قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟! قال: «إن كان محسنا؛ ندم ألاّ يكون ازداد، وإن كان مسيئا؛ ندم ألاّ يكون نزع». رواه الترمذي، والبيهقي في الزهد، ومعنى نزع: كف عن المعاصي والشهوات.