ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: بسبب كفركم. واعتبار (ما) موصولة، أو موصوفة هنا لا يؤيده المعنى. {كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب ما قبلها بلا فارق بينهما.
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)}
الشرح: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ:} نمنعها من الكلام {وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ} تنطق أيديهم بما عملت من سيئات في الدنيا. {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي: من الأعمال السيئة.
هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (النور) رقم [٢٤]: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ،} وقال جل ذكره في الآية رقم [٢٠] من سورة (فصلت): {حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقد قال ابن كثير: هذا حال الكفار، والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت، فقد روى مسلم-رحمه الله-في صحيحه عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: «أتدرون ممّ أضحك؟». قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:
«من مخاطبة العبد ربّه يوم القيامة، يقول: ربّ ألم تجرني من الظّلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز عليّ إلاّ شاهدا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم الله على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ وسحقا! فعنكنّ كنت أناضل». قال تعالى في سورة (فصلت) مبينا ما يقولونه لجوارحهم: {وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، وهو حديث القيامة الطويل، وفيه:
ثم يقال له: «الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه، من ذا الّذي يشهد عليه؟ فيختم الله على فيه، ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي! فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه بعمله. وذلك ليعذر من نفسه. وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه». انتهى. قرطبي وابن كثير.
ثم قيل: في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا: {وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم؛ حتى نطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه.
الثاني: ليعرفهم أهل الموقف، فيتميزون منهم. قاله ابن زياد. الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق، لخروجه مخرج الإعجاز، وإن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز.
الرابع: ليعلم: أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه، صارت عليه شهودا في حق ربه.