مؤكّدة لسابقتها. ({كانُوا يَعْتَدُونَ}): إعرابها مثل إعراب: ({كانُوا يَكْفُرُونَ}) وهي معطوفة على سابقتها، تؤول مثلها بمصدر بسبب العطف، التقدير: ذلك بسبب عصيانهم، وبسبب اعتدائهم.
الشرح: لمّا بين الله تعالى حال من خالف أوامره، وارتكب زواجره، وتعدّى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم، وما أحلّ به من النّكال؛ فبيّن تعالى على أن من أحسن من الأمم السّالفة، وأطاع فإنّ له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كلّ من اتّبع الرسول النبيّ الأميّ؛ فله السّعادة الأبديّة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلّفونه، كما قال تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية رقم [٦٢] من سورة (يونس) على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
وعن مجاهد قال: قال سلمان الفارسي-رضي الله عنه-: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم، وعبادتهم، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا}. وقال السّدي: نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينما هو يحدث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ ذكر أصحابه:
فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلّون، ويصومون، ويؤمنون بك، ويشهدون: أنّك ستبعث نبيّا.
فلما فرغ سلمان الفارسي من ثنائه عليهم؛ قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:«يا سلمان! هم من أهل النار».
فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله هذه الآية. فكان إيمان اليهود: أنّه من تمسك بالتوراة، وسنّة موسى-عليه السّلام-حتى جاء عيسى، فلمّا جاء عيسى كان من تمسّك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها، ولم يتبع عيسى؛ كان هالكا. وإيمان النصارى: أنّ من تمسك بالإنجيل منهم، وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن لم يتّبع محمدا صلّى الله عليه وسلّم منهم، ويدع ما كان عليه من سنّة عيسى، والإنجيل، كان هالكا. انتهى. ابن كثير. وما يشبهه في أسباب النّزول للسّيوطي.
ثمّ قال ابن كثير: وهذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا} الآية، قال: فأنزل الله تعالى بعد ذلك {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} الآية رقم [٨٥] من سورة (آل عمران)، فإنّ هذا الذي قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة، ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد أن بعثه به، فأمّا قبل ذلك، فكلّ من اتّبع الرّسول في زمانه، فهو على هدى، وسبيل، ونجاة. وهذا هو الحق.