في سورة (البقرة) رقم [٢٥٦]: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} والرّشد، بفتح الشين، والرشاد: طريق الهدى والخير، قال تعالى في سورة (غافر): {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ} رقم [٣٨]. والراشد هو المهتدي إلى محاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق. قال تعالى في سورة (الحجرات) رقم [٧]: {أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ}.
{فَآمَنّا بِهِ} أي: صدقنا، وأيقنا أنه من عند الله. {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً} أي: لن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك، وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين. قيل: كانوا يهودا. وقيل:
كانوا نصارى. وقيل: كانوا مجوسا ومشركين.
هذا؛ والغرض، بل والحكمة من الإخبار عن استماع الجن، توبيخ، وتقريع قريش، والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان؛ إذ كانت الجن خيرا منهم، وأسرع إلى الإيمان، فإنهم من حين ما سمعوا القرآن استعظموه، وآمنوا به، ورجعوا إلى قومهم منذرين، بخلاف العرب الذين نزل بلسانهم، فإنهم كذبوا، واستهزؤوا، وهم يعلمون: أنه كلام معجز، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمي لا يقرأ ولا يكتب، وشتان ما بين موقف الإنس، والجن؛ الذين أسرعوا إلى الإيمان، واستجابوا لله، ورسوله.
الإعراب: {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (القرآن)، ومفعوله محذوف، تقديره: يهدي الخلق، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل: {قُرْآناً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {إِلَى الرُّشْدِ:}
متعلقان بما قبلهما. (آمنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {سَمِعْنا..}. إلخ {بِهِ} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. (لن): حرف نفي ونصب واستقبال. {نُشْرِكَ:} فعل مضارع، منصوب ب: (لن)، والفاعل مستتر تقديره: «نحن».
{بِرَبِّنا:} متعلقان بما قبلهما. و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَحَداً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وفيه اختلاف الجمل المتعاطفة في الحال، والماضي، والاستقبال.
{وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اِتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)}
الشرح: {وَأَنَّهُ تَعالى:} عظم، وتقدس، وارتفع، وعلا، وتنزه. {جَدُّ رَبِّنا:} جلال ربنا، وعظمته. ومنه قول أنس-رضي الله عنه-كان الرجل إذا قرأ (البقرة) و (آل عمران) جدّ فينا، أي: عظم قدره. وقيل: الجد: الغنى، ومنه الحديث من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ». أي: لا ينفع ذا الغنى غناه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: عظمت قدرة ربنا.
وقيل: أمر ربنا. وقيل: آلاؤه، ونعماؤه على خلقه. ولا تنس: أن الجد أبو الأب، وأبو الأم.