{وَاِخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤)}
الشرح: {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ:} تذلل للوالدين، وتواضع معهما تواضع الرعية للأمير، والعبيد للسادة. وضرب خفض الجناح، ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه للطيران، ففيه استعارة مكنية، فقد استعار الطائر للذل، ثم حذفه ودل عليه بشيء من لوازمه، وهو الجناح، وإثبات الجناح للذل يسمونه استعارة تخييلية، ومثله قول أبي ذؤيب الهذلي: [الكامل]
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
حيث أثبت الأظفار للمنية، وهي لا ترى، ولا تشاهد على طريقة الاستعارة التخييلية.
وأيضا قول لبيد-رضي الله عنه-: [الكامل]
وغداة ريح قد كشفت وقرّة... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها
فقد جعل للشمال يدا، وللقرة-أي: البرد-زماما على مثال ما رأيت. هذا؛ ويقرأ الذل بضم الذال وكسرها. هذا؛ والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد: المؤمنون من أمته؛ إذ لم يكن له عليه السّلام في ذلك الوقت أبوان. هذا؛ ولم يذكر الذل في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده، وتنزيها له صلّى الله عليه وسلّم من الذل، انظر الآية [٨٨] من سورة (الحجر).
{مِنَ الرَّحْمَةِ:} من فرط رحمتك، وشدة شفقتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، وهو الولد نفسه. {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما} أي: واسأل الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك، وشفقتك الفانيتين. {كَما رَبَّيانِي صَغِيراً:} خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما، وحنانا عليهما.
تنبيه: لقد بين الله في هاتين الآيتين مكانة الأبوين في الإسلام، وقد، أوصى ببرهما، ورحمتهما، والإشفاق عليهما، فنهى الولد عن أمرين، وأمره بثلاثة تجاه والديه، نهاه عن التضجر منهما، ونهرهما، وأمره بالتواضع لهما، والتذلل بين أيديهما، وأن يقول لهما قولا لينا لطيفا، وأن يدعو لهما بالرحمة، والمغفرة لذنوبهما، وأن يعفو الله عنهما، ويدخلهما فسيح جنته، وقد وردت أحاديث شريفة تأمر ببرّ الوالدين، ومثلها تنهى عن عقوقهما، أكتفي منها بما يلي:
عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أمسى، وأصبح مرضيا لوالديه؛ أمسى، وأصبح؛ وله بابان مفتوحان إلى الجنة، وإن واحدا فواحدا، ومن أمسى وأصبح، مسخطا لوالديه؛ أمسى وأصبح، وله بابان مفتوحان إلى النار، وإن واحدا فواحدا».
فقال رجل: يا رسول الله! وإن ظلماه. قال: «وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه».