فإن قلت: فما وجه هذا التأويل، وهذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد، ولا زكاة فطر؟ قلت: يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم، كما قال تعالى:{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ،} وهذه السورة مكية، وظهر أثر الحل يوم فتح مكة، وكذا نزل بمكة:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} من سورة (القمر) وكان ذلك يوم بدر. قال عمر-رضي الله عنه-: كنت لا أدري أي جمع سيهزم؟ فلما كانت غزوة بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع، ويقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. ووجه آخر، وهو:
أنه كان في علم الله تعالى: أنه سيكون ذلك، فأخبر عنه. وقيل:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} يعني:
الصلوات الخمس. وقيل: أراد بالذكر: تكبيرات العيد، وبالصلاة: صلاة العيد. انتهى. خازن.
الإعراب:{قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَفْلَحَ:} فعل ماض. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {تَزَكّى:}
فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (من)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} لا محل لها. {وَذَكَرَ:} الواو: حرف عطف. (ذكر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، والتي بعدها معطوفة عليها لا محل لها أيضا.
الشرح:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا:} المعنى: الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي. قال عرفجة الأشج: كنا عند عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-فقرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا: لا! قال: لأن الدنيا حضرت، وعجل لنا طعامها، وشرابها، ونساؤها، ولذتها، وبهجتها، وإن الآخرة غيبت، وزويت عنا، فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل. وهذا يعني: أن الخطاب يعم الناس أجمعين، والمؤمنون لهم الحظ الأكبر من هذا الخطاب؛ لينزجروا، ويتعظوا، ويكون في الكلام التفات من الغيبة في الآيات السابقة إلى الخطاب في هذه الآية. وانظر الالتفات في الآية رقم [٢٠] من سورة: (الملك) هذا؛ ويقرأ: «(يؤثرون)» بالياء؛ فعليه؛ فالكلام راجع للأشقياء، ولا التفات.
وانظر شرح {الْحَياةَ الدُّنْيا} في الآية رقم [٣٨] من سورة (النازعات).
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى} أي: والحال أن الآخرة خير من الدنيا، وأبقى، والباقي خير من الفاني، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى؟! وكيف يهتم عاقل بدار الغرور، ويترك الاهتمام بدار البقاء، والخلود؟! وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:«ما الدنيا في الآخرة إلاّ كما يضع أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع؟!». أخرجه مسلم عن المستورد أخي بني فهر-رضي الله عنه-، وأشار يحيى بن