الشرح:{وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي: وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون تحت الماء، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر، وغيرها من الأحجار الكريمة، والأشياء الثمينة.
{وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ:} أعمالا أخر، كبناء المدن، والقصور، واختراع الصنائع الغريبة، واتخاذ النورة، والقوارير، بالإضافة إلى صنع المحاريب، والتماثيل، والجفان. {وَكُنّا لَهُمْ حافِظِينَ:} أن يخرجوا عن طاعته، أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم؛ التي جبلوا عليها.
قال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-: فهذا كله دل على أن الله سخر لسليمان-عليه السّلام-الجن تطيعه، وينفذ أمره فيهم، ويعملون له ما يشاء من ضخم المباني، والعمائر، ثم ذكر العمائر والمباني التي بنيت له، ومن جملتها مدينة تدمر في سورية، كل ذلك عدا المخازن، ومدن المركبات، ومدن الفرسان، وما بناه في لبنان وغيرها من سائر مملكته، وسخر في ذلك بقايا الشعوب الذين كانوا في فلسطين، ولم يكن من الشعب الإسرائيلي مسخر، وكان رؤساء المسخرين خمسمئة وخمسين رئيسا.
ومن نظر إلى هذه الأعمال، وفخامتها، وضخامة أحجارها لم يستبعد أن يكون للجن عمل عظيم في ذلك، وخاصة مدينة تدمر، وبعض آثارها الضخمة مائل إلى اليوم، هذا؛ ولا تنس قلعة بعلبك في لبنان، وقد ذكر النابغة الذبياني تسخير الجن لسليمان في شعره الذي يعتذر فيه إلى النعمان بن المنذر؛ إذ يقول:[البسيط]
ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلاّ سليمان إذ قال المليك له... قم في البريّة فاحددها عن الفند
وخيّس الجنّ إني قد أذنت لهم... يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد
خاتمة: ذكرت لك فيما سبق: أن جميع من ملكوا الدنيا أربعة: مؤمنان، وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، وإسكندر ذو القرنين. والكافران هما: نمرود الذي ادعى الألوهية على عهد إبراهيم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وبختنصر الذي خرب بيت المقدس، ونهبه، وأهلك بني إسرائيل بعد سليمان، عليه السّلام، كما رأيت في الآية رقم [٥] من سورة (الإسراء)، وأضيف هنا: أن ملك سليمان كان أوسع، وأشمل، وأعظم، حيث ذلل الله له الطيور، وسخر له الجن، والشياطين، وسخر له الريح تجري بأمره حيث أصاب، فهذا لم ينله أحد قبله، ولا بعده، وهو فحوى طلبه:{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ}