الشرح:{بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ:} قال الأخفش: جعل الله الإنسان هو البصيرة، كما تقول للرجل: أنت حجة على نفسك، والبصيرة: الحجة. قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [١٠٤]: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ}. وقال الزمخشري: بصيرة: حجة بينة، وصافات بالبصارة على المجاز، كما وصافات الآيات بالإبصار في قوله تعالى في سورة (النمل) رقم [١٣]: {فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً}.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: أي: شاهد، وهو شهود جوارحه عليه، يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في سورة (النور) رقم [٢٤]: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} وجاز تأنيث (البصيرة) لأن المراد بالإنسان هنا: جوارحه؛ لأنها شاهدة على نفس الإنسان، فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة. انتهى. قرطبي. وعلى قول ابن عباس-رضي الله عنهما-تكون التاء للمبالغة، كعلامة. وقيل: المراد بالبصيرة: الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير، أو شر.
{وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ:} ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه، ويجادل عنها، فإنه لا ينفعه؛ لأنه قد شهد عليه شاهد من نفسه. وقال الضحاك: ولو أرخى ستوره، وقال المعاذير الستور، واحدها: معذار، والستر بالغة أهل اليمن معذار. قال الشاعر:[الطويل]
والأول أولى بالاعتبار. قال تعالى في سورة (غافر) رقم [٥٢]: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ،} وقوله تعالى في سورة (المرسلات) رقم [٣٦]: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فالمعاذير على هذا مأخوذ من العذر. قال الشاعر:[الطويل]
وإيّاك والأمر الّذي إن توسّعت... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه... وليس له من سائر النّاس عاذر
والدليل على هذا قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [٢٣]: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ،} وقوله تعالى في سورة (المجادلة) رقم [١٨]: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ..}. إلخ، وقد قال تعالى في سورة (فصلت) رقم [٢٤]: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}.
هذا؛ ولا تنس التشبيه البليغ، حيث شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستسقاء به، فيكون فيه تشبيه لذلك بالماء المزيل للعطش. وانظر شرح الإنسان في سورة (المعارج) رقم [١٩].