للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)}

الشرح: {ما نَنْسَخْ:} النّسخ في اللغة: إزالة الصّورة عن الشيء، وإثباتها في غيره، وفي الشرع: انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي، فكان تبديلا في حقّنا، بيانا في حقّ صاحب الشّرع.

وسبب نزول هذه الآية: أن اليهود قالوا: إنّ محمدا يأمر أصحابه بأمر، ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا، ويرجع عنه غدا، ما يقول إلاّ من تلقاء نفسه، كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ} رقم [١٠١] من سورة (النّحل)، فأنزل الله {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فبيّن بهذه الآية وجه الحكمة في النّسخ، وأنّه من عنده لا من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم.

هذا؛ وبعض المفسرين يقول: إن المشركين في مكّة هم الذين عابوا النّسخ، وطعنوا فيه.

وهذا غير وجيه؛ لأن مكّة لم يحصل فيها نسخ، ولا تبديل، ولا تغيير، والسبب في ذلك: أنّ مكة لم تنزل فيها آيات الأحكام، ومهمّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مكة كانت مقصورة على التّوحيد، والإيمان بالبعث، والنشر، والحساب، والجزاء. واليهود أنكروا النّسخ كفرا، وعنادا، فإنه ليس في العقل ما يدلّ على امتناع النّسخ في أحكام الله تعالى، كما أنه يفعل ما يريد، ولا يسأل عما يفعل مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدّمة، وشرائعه الماضية، كما أحلّ لآدم عليه السّلام تزويج بناته من بنيه، ثمّ حرم ذلك بشريعة نوح، وكما أباح لنوح عليه السّلام بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثمّ نسخ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل، وبنيه، ثم حرّم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وهم يعترفون بذلك، ويصدفون عنه، عليهم لعائن الله في الدنيا والآخرة!

هذا والنّسخ على أنواع: منها نسخ الأثقل إلى الأخف، كآية المصابرة المذكورة في سورة الأنفال رقم [٦٦]: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فإنّها نسخت حكم ما قبلها، وكالذي كان على المؤمنين من نسخ قيام اللّيل، كما هو في آخر سورة المزمّل، ومنها نسخ الأخف إلى الأثقل، والأكمل في الثواب، والأجر، كالذي كان على المسلمين من صيام أيام معدودات في كلّ شهر، وصيام يوم عاشوراء، فنسخ ذلك بفريضة صيام رمضان، ونسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كنسخ التوجّه إلى بيت المقدس، وصرفه إلى المسجد الحرام، وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى كما رأيت في سورة المجادلة رقم [١٢] ١٣ - وينسخ القرآن بالقرآن اتفاقا، وينسخ القرآن بالسّنة، كما في آية الوصية للأقربين رقم [١٨٠] الآتية، فإنها منسوخة بقول

<<  <  ج: ص:  >  >>