والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. هذا؛ وإن اعتبرت الفاء الفصيحة تفصح عن شرط مقدر، التقدير: قل: إذا كان ما تدّعونه صحيحا؛ فأتوا بالتوراة؛ فالكلام كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة: {فَاتْلُوها} معطوفة على ما قبلها. {أَنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:}
فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:}
خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء... إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول، وجملة: {قُلْ..}. إلخ مستأنفة لا محل لها.
{فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (٩٤)}
الشرح: {فَمَنِ افْتَرى..}. إلخ: الافتراء: اختلاق الكذب، والفجور، والإفساد في الأرض. مأخوذ من: فرى الأديم: إذا قطعه. {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي: من بعد ظهور الحجّة بأنّ التحريم إنّما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرّما من قبله. {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ:}
المعتدون، المتجاوزون الحقّ إلى الباطل، المستحقّون للعذاب الأليم، والعقاب الشديد؛ لأنّ كفرهم ظلم منهم لأنفسهم، ولمن أضلّوه عن الدّين من بعدهم.
بعد هذا فالآية الكريمة تشنّع على اليهود كذبهم، وافتراءهم، وقبائح أعمالهم، فتصفهم بأنّهم كاذبون، والكذب ديدنهم، وصفة لازمة لهم في ماضيهم، وحاضرهم. والكذب من أفحش الذنوب الكبار، ومن أخبث ما يتصف به إنسان، وأبرز صفات المنافقين. هذا؛ فقد حذّر القرآن الكريم منه، والرّسول صلّى الله عليه وسلّم حذّر منه؛ ولو في المزاح، والضّحك، ومهما دعت الحاجة إليه؛ لأنّ فيه الهلاك، وفي الصّدق النّجاة. وخذ ما يلي:
فعن منصور بن المعتمر-رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تحرّوا الصّدق-وإن رأيتم: أنّ الهلكة فيه-فإنّ فيه النّجاة». رواه ابن أبي الدنيا. وقال الشاعر: [السريع]
عليك بالصّدق، ولو أنّه... أحرقك الصّدق بنار الوعيد
واعتبر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الكذب من أبرز صفات المنافقين مع الخيانة، والفجور، وخلف الوعد، ولا يكذب إلا حقير مهين، لا كرامة له بين الناس، قال الشاعر: [البسيط]
لا يكذب المرء إلاّ من مهانته... أو فعله السّوء أو من قلّة الأدب
لبعض جيفة كلب خير رائحة... من كذبة المرء في جدّ وفي لعب
وعن صفوان بن سليم-رضي الله عنه-قال: قيل: يا رسول الله! أيكون المؤمن جبانا؟ قال: «نعم» قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: «نعم». قيل له: أيكون المؤمن كذّابا؟ قال:
«لا!». وهذا الحديث ضعيف، رواه مالك هكذا مرسلا.