وقصة المائدة أعجب ما ذكر فيها؛ لاشتمالها على آيات كثيرة، ولطف عظيم من الله تعالى.
وهي مائة وعشرون آية.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)}
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة، أي: يا من صدّقتم الله، ورسوله، وتحلّيتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان. وقد خاطب الله عباده المؤمنين في هذه السّورة بالنّداء الدّالّ على الإقبال عليهم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكّرهم بأنّ الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقّى أوامر الله ونواهيه بحسن الطّاعة، والامتثال. وإنّما خصّهم الله بالنّداء؛ لأنّهم هم المستجيبون لأمره، المنتهون عمّا نهى الله عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي.
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يقال: وفى، وأوفى لغتان، قال تعالى في سورة (التّوبة): {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ،} وقال في سورة (النّجم): {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى} وقال طفيل الغنوي: [البسيط]
أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته... كما وفى بقلاص النّجم حاديها
فجمع بين اللّغتين، وقلاص النّجم: هي العشرون نجما الّتي ساقها الدّبران في خطبته الثّريا. كما تزعم العرب. والعقود: جمع عقد، يقال: عقدت العهد، والحبل، فهو يستعمل في المعاني، والأجسام. قال الحطيئة في مدح بغيض بن عامر بن شمّاس: [البسيط]
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا
والمراد ب: (العقود) ما يعم جميع ما ألزم الله به عباده، وفرضه عليهم من التكاليف، والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات، ونحوها ممّا يجب الوفاء به، ويحسن دينا. وما في هذه السورة الكريمة من أحكام يبين ذلك، ويوضحه.
قال الحسن-رحمه الله تعالى-: يعني بذلك عقود الدّين، وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع، وشراء، وإجارة، وكراء، ومناكحة، وطلاق، وموادعة، ومصالحة، وتمليك، وتخيير، وغير ذلك من الأمور ممّا كان غير خارج عن الشّريعة، وكذلك ما عقده الشّخص لله على نفسه من الطّاعات كالحجّ، والصّيام... إلخ.
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} أي: أكل لحمها، والانتفاع بصوفها، وشعرها، ودرّها، ونسلها، وجميع أجزائها. والبهيمة: كلّ حيّ لا يميّز، ولا يعقل، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، كقولك: ثوب خز، وخاتم فضة، ونحو ذلك.