{فَمِنَ اللهِ:} فمن كرم الله، وإحسانه، وجوده، وفضله تعالى يتفضّل به عليك. والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به أمّته. وقيل: إنّه عامّ، وتقديره: ما أصابك أيّها الإنسان. وإنّما كان من فضل الله؛ لأنّ كل ما يفعله الإنسان من الطاعات لا يكافئ نعمة الوجود، بل، ولا شربة ماء، فكيف يقضي غيره؟! ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:«ما أحد يدخل الجنّة إلاّ برحمة الله». قيل: ولا أنت يا رسول الله؟! قال:«ولا أنا». وفي رواية أخرى:«لن يدخل أحدا عمله الجنّة». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال:«ولا أنا؛ إلاّ أن يتغمّدني الله بفضله، ورحمته. فسدّدوا، وقاربوا».
أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه-.
{وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ:} قحط، وجدب، وهزيمة... إلخ. {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: فبما كسبت يداك من المعاصي، كما قال تعالى في سورة (الشّورى): {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} وهو لا ينافي قوله تعالى في الآية السابقة: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ:} فإنّ الكلّ منه تعالى إيجادا، وإيصالا؛ غير أنّ الحسنة إحسان، وامتحان، والسيئة مجازاة، وانتقام.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: لما نزلت آية الشّورى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والّذي نفسي بيده ما من خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلاّ بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر». وقالت السّيدة عائشة-رضي الله عنها-: «ما من مسلم يصيبه وصب، ولا نصب، حتّى الشّوكة يشاكها، وحتّى انقطاع شسع نعله إلاّ بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر».
{وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً} أي: أرسلناك يا محمد إلى النّاس كافّة رسولا؛ لتبلّغهم رسالتي، وما أرسلتك به، وليست رسالتك مقصورة على العرب، كما يقول اليهود اللّؤماء. {وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} أي: على أنّه أرسلك للناس كافّة، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك، واتّباعك، وهو عالم بما تبلّغهم إيّاه، وبما يردّون عليك من الحقّ كفرا، وعنادا.
بقي أن تعرف وجه الجمع بين قوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ،} وبين قوله: {وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ،} فأمّا إضافة الأشياء إلى الله تعالى، فعلى الحقيقة؛ لأنّ الله-عزّ وجل-هو خالقها، وموجدها، وأمّا إضافة السيئة إلى فعل العبد، فعلى المجاز، تقديره: وما أصابك من سيئة؛ فمن الله بذنب نفسك عقوبة لك. وقيل: إضافة السيئة إلى فعل العبد على سبيل الأدب، فهو كقوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-:
{وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأضاف المرض إلى نفسه على طريق الأدب. ولا شكّ: أنّ