الشرح: لما بين الله المؤمنين، والكافرين فيما تقدم في قوله:{وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ،} وبين حال الكفار بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ..}. إلخ، وبين حال المؤمنين بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ..}. إلخ؛ بين حال المنافقين في هذه الآية حيث جعلوا إيذاء الكفار لهم صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر.
{فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ} أي: عذبوا تعذيبا لم يصبروا عليه، وتركوا الدين الحق، وكان يمكنهم أن يصبروا على الأذى إلى حد الإكراه، وتكون قلوبهم مطمئنة بالإيمان. {جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ} أي: تعذيب الكافرين لهم صارفا عن الإيمان. {كَعَذابِ اللهِ} أي: في النار فإنه يصرف المؤمنين عن الكفر، وشتان ما بينهما، فتعذيب الكافرين للمؤمنين يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله للكافرين بعده عذاب أليم، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة؛ تطيب لها النفس، ولا تعد عذابا، كما تجرى عملية جراحية في الجسم لقطع ما يؤذيه، ولا تعد عذابا له.
{وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} أي: نصر على الكفار، وفيه كسب، وغنيمة، {لَيَقُولُنَّ} أي:
المنافقون. وهذا على ضم اللام مراعاة لمعنى (من)، وقرئ بفتح اللام، مراعاة للفظ (من).
{إِنّا كُنّا مَعَكُمْ} أي: على عدوكم، وكنا مسلمين، وإنما أكرهنا بالتعذيب حتى قلنا ما قلنا فأشركونا معكم بالكسب، والغنيمة. {أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ} أي: الله أعلم بما في صدور العالمين من العالمين أنفسهم بما في صدورهم، ومن ذلك ما في صدور المؤمنين من الإخلاص، وما في صدور المنافقين من النفاق.
تنبيه: قال الضحاك: نزلت الآية في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا؛ رجعوا إلى الشرك. وقال عكرمة: كان قوم قد أسلموا، فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر، فقتل بعضهم، فأنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فكتاب بها المسلمون من المدينة إلى المسلمين بمكة، فخرجوا، فلحقهم المشركون، فافتتن بعضهم، فنزلت هذه الآية فيهم. وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أسلم، وهاجر، ثم أوذي، وضرب، فارتد، وإنما عذبه أبو جهل والحارث وكانا أخويه لأمه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه. انتهى. قرطبي.