يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحل محلّ المفرد. هذا وإن اعتبرت الجواب محذوفا، تقديره: فهو آمن، أو: فلا يحزن؛ فالجملة الفعلية تكون تعليلا للجواب المحذوف، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، كما قد ذكرته لك مرارا، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ:} مستأنفة لا محل لها.
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في معنى هذه الآية: هو أن يطاع، فلا يعصى، ويشكر، فلا يكفر، ويذكر، فلا ينسى. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-: هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط؛ ولو على أنفسكم، وآبائكم، وأبنائكم. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: لا يتّقي الله عبد حقّ تقاته حتى يخزن لسانه.
واختلف العلماء في هذا القدر من هذه الآية، هل هو منسوخ، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه منسوخ، وذلك: أنّه لمّا نزلت هذه الآية؛ شقّ ذلك على الصحابة الكرام، وقالوا: يا رسول الله! ومن يقوى على هذا؟! فأنزل الله النّاسخ، وهو قوله تعالى في سورة (التّغابن): {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن زيد، والسّدّي. والقول الثاني: أنها محكمة غير منسوخة. وهو رواية عن ابن عباس أيضا، وبه قال طاوس.
وموجب هذا الاختلاف يرجع إلى معنى الآية، فمن قال: إنّها منسوخة، قال:{حَقَّ تُقاتِهِ:} هو أن يأتي العبد بكل ما يجب عليه، ويستحقّه. فهذا يعجز العبد عن الوفاء به، فتحصيله ممتنع. ومن قال: إنّها محكمة؛ قال:{حَقَّ تُقاتِهِ:} أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرا لحقّ تقاته، لا ناسخا، ولا مخصّصا، فمن اتقى الله ما استطاع؛ فقد اتّقاه حقّ تقواه. وقيل: معنى {حَقَّ تُقاتِهِ:} كما يجب أن يتقى، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه. وقيل في معنى قول ابن عباس: هو أن يطاع فلا يعصى: صحيح، والذي يصدر من العبد على سبيل الخطأ، والسهو، والنسيان غير قادح فيه؛ لأنّ التكليف في تلك الحالات مرفوع عنه، وكذلك قوله: وأن يشكر فلا يكفر؛ فواجب على العبد حضور ما أنعم الله به عليه بالبال، وأمّا عند السّهو، والخطأ؛ فلا يجب عليه. وكذلك قوله: وأن يذكر فلا ينسى، فإنّ هذا إنّما يجب عند الدّعاء، والعبادة، لا عند السّهو، والنسيان. انتهى خازن.
{وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: الزموا الإسلام، ودوموا عليه، ولا تفارقوه؛ حتّى تموتوا.
فالنهي في اللّفظ عن الموت على غير الإسلام، وهو في المعنى على غير ذلك؛ إذ المعنى: لا تفارقوا الإسلام؛ حتى تموتوا، كما في قولك: لا تصلّ؛ إلا وأنت خاشع. والمعنى صلّ الصلاة مقترنة بالخشوع. وقيل: المعنى: لا تموتن إلا وأنتم مخلصون، مفوضون إلى الله أموركم، تحسنون الظنّ بالله، عزّ وجل.