للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)}

الشرح: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً:} هذا هو الطور الرابع الذي لم يذكر في آية الحج رقم [٥] حيث تتحول المضغة بعد تمام أربعة أشهر، ونفخ الروح في الجنين إلى عظام لينة غضروفية مكسوة باللحم. {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ:} اختلف في تفسير هذا الخلق اختلافا كثيرا، وفي الحقيقة هو يشمل كل تصرفات الإنسان من النطق، والإدراك، وحسن المحاولة، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. هذا؛ والفعل (خلق) هنا بمعنى: صير، فلذا نصب مفعولين صريحين، فإن كان بمعنى: اخترع، وأحدث؛ تعدّى إلى مفعول واحد، وهو كثير. هذا؛ والفعل «جعل» ينصب مفعولين أيضا إذا كان من أفعال التصيير، فإن كان بمعنى: خلق؛ تعدى إلى واحد فقط، نحو قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} أي: وخلق الظلمات، والنور.

{فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ:} يروى: أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-لما سمع صدر الآية إلى قوله: {خَلْقاً آخَرَ} قال: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت». وقيل: إن قائل ذلك معاذ بن جبل، رضي الله عنه. وقيل: إن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي، فنطق بذلك قبل إملائه عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتب هكذا نزلت». فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه؛ فأنا نبي يوحى إلي، فارتد، ولحق بمكة، ثم أسلم يوم الفتح، وفي إسلامه دخن، ودغل. انظر ما ذكرته بشأنه، وشأن غيره في الآية رقم [٩٣] من سورة (الأنعام)، وقيل: هذه الحكاية غير صحيحة؛ لأن ارتداده كان في المدينة، وهذه السورة مكية كما رأيت في مقدمتها.

هذا؛ ومعنى (تبارك) تقدس، وتعظم، وتعالى، وتنزه، وهو ملازم للماضي، لا يأتي منه مضارع، ولا أمر. وانظر الآية رقم [١] من سورة (الفرقان)، ومعنى {أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} أحسن المصورين، والمقدرين. قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: {اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ} قلت: الخلق له معان، منها: الإيجاد، والإبداع، ولا موجد، ولا مبدع إلا الله تعالى، ومنها: التقدير، قال زهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان المري: [الكامل]

ولأنت تفري ما خلقت وبع‍... ض القوم يخلق ثمّ لا يفري

معناه: أنت تقدر الأمور، وتقطعها، وغيرك لا يفعل ذلك. فعلى هذا يكون معنى الآية: الله أحسن المقدرين. وجواب آخر، وهو: أن عيسى-عليه الصلاة، والسّلام-خلق طيرا، وسمى نفسه خالقا بقوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} فقال: {فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}.

<<  <  ج: ص:  >  >>