الشرح:{وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها:} يقول الله: لو شئت؛ لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد. قال النحاس: في معناه قولان: أحدهما: أنه في الدنيا. والآخر: أن سياق الكلام يدل على أنه في الآخرة؛ أي: لو شئنا؛ لرددناهم إلى الدنيا، والمحنة، كما سألوا. {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي..}. إلخ أي: حق القول مني لأعذبن من عصاني بنار جهنم، وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم؛ لعادوا، كما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ}.
هذا؛ وقدر ابن هشام الكلام في المغني كما يلي: ولكن لم أشأ ذلك، فحق القول مني.
وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: -ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله؛ لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه، وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره-باطل، ولا وجه له.
وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها؛ قالوا:
بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب؛ فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد: هداها إلى الإيمان، وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين، وأقرب ما لهم في الجواب أن يقال: فقد بطل عندنا، وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء، والإجبار، والإكراه، فصار يؤدي ذلك إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب رذل عندنا، وعندكم؛ فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين، إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار؛ حتى يصح التكليف، فمن شاء آمن، وأطاع اختيارا لا جبرا، قال تعالى في سورة التكوير رقم [٢٨]: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ،} وقال في سورة الإنسان رقم [٢٩]: {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً}. ثم عقب هاتين الآيتين في السورتين المذكورتين بقوله جل شأنه:{وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفى أن يشاءوا إلا أن يشاء الله، ولهذا أفرطت الجبرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق (معلّق) بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها، التفاتا منهم إلى قوله تعالى:{وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ}. وفرّطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم، التفاتا منهم إلى قوله تعالى:{لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}.
ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد، وهو مذهب بين مذهبي المجبرة، والقدرية، وخير الأمور، أوسطها، وذلك: أن أهل الحق قالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، وهو أنا