ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش، الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته، وإرادته ولا مقرونة بقدرته، وبين حركة الاختيار؛ إذا حرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش، ومن لا يفرق بين الحركتين:
حركة الارتعاش، وحركة الاختيار، وهما موجودتان في ذاته، ومحسوستان في يده بمشاهدته، وإدراك حاسته؛ فهو معتوه في عقله، ومختل في حسه، وخارج من حزب العقلاء، وهذا هو الحق المبين وهو طريق بين طريقي الإفراط، والتفريط، قال الشاعر:[الطويل] ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سمّوا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه في آخر سورة (البقرة): {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} انتهى. قرطبي بحروفه بتصرف بسيط. ومعنى:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} أي: من عصاتهما، وقدم الجن؛ لأن المقام مقام تحقير، ولأن أكثر أهل جهنم منهم فيما قيل، وفي تخصيص الجن، والإنس بالذكر إشارة إلى أنه تعالى قد عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم.
هذا؛ وخذ قوله تعالى في الآية رقم [١١٢] من سورة (الأنعام): {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ،} ورقم [١٠٧] منها {وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا،} وخذ قوله تعالى في الآية رقم [١٨] من سورة (الأعراف) لإبليس: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ،} وقوله له في الآية رقم [٨٥] من سورة (ص): {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ،} وقوله تعالى في الآية رقم [١١٩] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} انظر شرح الآيات في محالها.
تنبيه: قال الله تعالى في الآية رقم [٢٧] من سورة (الحجر): {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ،} وقال في سورة (الرحمن) رقم [١٥]: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} فقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: الجان: أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر. وقال قتادة: هو إبليس.
وقيل: الجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين. هذا؛ والجنة بكسر الجيم، والجن بمعنى واحد، وفيهم مسلمون، وكافرون، يأكلون، ويشربون، ويحيون، ويموتون، ويتوالدون كبني آدم. وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون، ولا يموتون إلا إذا مات أبوهم إبليس. والأصح: أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار، سمّوا جنّا لتواريهم، واستتارهم عن الأعين من قولهم:
جنّ الليل إذا ستر بظلمته كل شيء. والشيطان هو العاتي المتمرد الكافر، والجن منهم المؤمن، ومنهم الكافر، والجن أجسام نارية لطيفة، قادرة على التشكل في الغالب بأشكال مخيفة قبيحة من حية، ونحوها، وهم يروننا، ولا نراهم. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [٢٧]: {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} والملائكة مثلهم في هذا، ولكنهم يتشكلون بأشكال حسنة عكس الجن، وهم مخلوقون من نور.