للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)}

الشرح: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً..}. إلخ: الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: إن لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع، ولا يبيد، على تبليغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم. ومعنى {غَيْرَ مَمْنُونٍ:} غير مقطوع، كقوله تعالى في كثير من الآيات: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} سورة (التين) وغيرها، وكقوله تعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام: {عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} رقم [١٠٨]. ولا تنس التأكيد ب‍: (إنّ) ولام الابتداء. وقيل: معنى {غَيْرَ مَمْنُونٍ} غير مكدر عليك بسبب المنة. وخذ قول لبيد-رضي الله عنه- في معلقته رقم [٣٨] انظر شرحه هناك فإنه جيد والحمد لله: [الكامل]

لمعفّر قهد تنازع شلوه... غبس كواسب لا يمنّ طعامها

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ:} وهذا كالتفسير لقوله: {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، كانت ظاهرة عليه، ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه، ولما كانت أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاملة حميدة، وأفعاله المرضية الجميلة وافرة؛ وصفها الله تعالى بأنها عظيمة. وحقيقة الخلق: قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة، والآداب المرضية، فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه، ولقد أحسن القائل: [الطويل]

إذا الله أثنى بالّذي هو أهله... عليك فما مقدار ما تمدح الورى؟

هذا؛ ولا تنس: أن في الآية الكريمة استعارة تبعية بالحرف، فقد شبه الله تعالى تمكن النبي صلّى الله عليه وسلّم من الهدى، والأخلاق الكريمة، والثبوت عليها بتمكن من علا دابة، يصرفها كيف يشاء، بجامع التمكن، والاستقرار في كلّ، فسرى التشبيه من الكليّات للجزئيات، التي هي معاني الحروف، فاستعير لفظ (على) الموضوع للاستعلاء الحسي للارتباط، والاستعلاء المعنوي على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [٢٤]: {وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. وخذ قول الشاعر: [السريع]

لسنا وإن أحسابنا كرمت... يوما على الأحساب نتّكل

هذا؛ ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح، والبخل، والتشديد في المعاملات، ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول، والفعل، والبذل، وحسن الأدب، والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب، والتساهل في جميع الأمور، والتسامح بما يلزم من الحقوق، وترك التقاطع، والتهاجر، واحتمال الأذى من الأعلى، والأدنى مع طلاقة الوجه، وإدامة البشر. فهذه الخصال تجمع محاسن الأخلاق، ومكارم الأفعال. ولقد كان جميع ذلك في رسول صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا؛ وصفه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

<<  <  ج: ص:  >  >>