للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-: معناه: على دين عظيم، لا دين أحب إليّ، ولا أرضى عندي منه. وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-قال: سألت عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها-فقلت لها: أخبريني بخلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: كان خلقه القرآن.

ومثله عن سعيد بن هشام برواية ابن جرير الطبري. ومعنى هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صار امتثال القرآن سجية له، وخلقا، فكل شيء أمر القرآن به فعله، وكل شيء نهى عنه تركه.

أقول: كلمة عائشة المتقدمة تنم عن ذكائها، وشدة فطنتها، وكمال معرفتها بأخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلم تقل: كان رسول الله كذا. وأخلاقه كذا، وإنما قالت باختصار: (كان خلقه القرآن) ولما سمع كفار قريش الآيات، وما تضمنته من الإيجاز، والتأكيدات ب‍: (إنّ) ولام الابتداء، والقسم باثنين، أو بثلاثة حسبما رأيت فيما تقدم، وإجابة القسم بثلاثة أشياء: نفي الجنون عنه صلّى الله عليه وسلّم، وثبوت الأجر له، وكونه على جانب عظيم من مكارم الأخلاق؛ دهشوا، وتعجبوا من تكريم الله لنبيه، ووصفه له بما ذكره، وهم فرسان البلاغة، والفصاحة، فرجعوا إلى أنفسهم، واستعرضوا سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم العطرة من نشأته إلى شبابه، إلى كهولته، إلى أن اختاره الله هاديا للناس، فلم يجربوا عليه شيئا مخلا بمكارم الأخلاق، فأذعنوا، ثم نكسوا على رؤوسهم، كما نكس قوم إبراهيم عليه السّلام.

وخذ ما يلي: فعن جابر-رضي الله عنه-أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وتمام محاسن الأعمال». وعن أنس-رضي الله عنه-قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما قال لي: أفّ قطّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته! وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقا، ولا مسست خزّا، ولا حريرا، ولا شيئا كان ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا شممت مسكا، ولا عطرا، كان أطيب من عرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. متفق عليه.

وعن أنس أيضا؛ قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استقبله الرجل فصافحه، لا ينزع يده من يده؛ حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه؛ حتّى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له). أخرجه الترمذي.

وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده خادما قطّ، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خيّر بين شيئين قطّ إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما؛ إلا أن يكون إثما، فإذا كان إثم كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه؛ إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عز وجل. أخرجه الإمام أحمد.

وعن أنس-رضي الله عنه-قال: كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ، فجبذه جبذة شديدة؛ حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فليس المال

<<  <  ج: ص:  >  >>